في حديث الشعر (16)

هنري زغيب*
في حديثي عن الشعر، لا أَعتبر خروجًا عن السياق تحوُّلي إِلى النثر، لا السردي المنسرح بل الجمالي. فهذا الأَخير، دقَّةً وتنضيدًا ونحتًا لغويًّا، لا يقلُّ فخامةً عن الشعر. والنثر، عندي، فنٌّ عظيمٌ كما الشعر فنٌّ عظيم. لذا حدَّدتُ منه “النثر الجمالي” لأَهميته الإِبداعية.
فماذا عنه؟
إِبداعُهُ رديفُ إِبداع الشعر
كتابٌ في النثر الجمالِيِّ ليس أَقلَّ قيمةً إِبداعيةً من كتابٍ في الشعر العالي. كلاهُما عملٌ صعبٌ فاخرٌ يقدِّمه الخاصة (شعراء أَو ناثرون) إِلى العامة. وتَحديد “النثر الجمالِيّ” مقصودٌ لتمييزه عن النثر السردي العادي. فليس كلُّ نثرٍ نثرًا، كما ليسَ شِعرًا كلُّ نظْم. التكثيفُ خصيصةُ الشِعر دون النظم، والانسراحُ عنوانُ السرد الرخْو دون النثر الجمالي.

الخواطر ليست قصائدَ قصيرة
أَتبسَّط شارحًا:
في كتابي “حميميات” (مجموعة خواطر حب) أَلْزَمْتُني بقاعدةٍ ذاتية صارمة: تكون الخاطرةُ ما إِلَّا بين كلمتين وعَشْر. لذا لَم تتعدَّ أَيةُ حَميميَّة عشْرَ كلمات، فإِذا تَعَدَّتْ عَمَدْتُ إِلى التكثيف كي أَتقيَّدَ بِما به أَلزَمْتُني.
“أَتقَيَّدُ”، قلتُ، و”أَلْزَمْتُني”. وأَقصُدُ الكلمتَين تَحديدًا. فالفنُّ العالي ابنُ الصعوبة والالتزام (يعصُمُهُ، ليبقى على الزمان، أَنه متينُ السبْك والسكْب). ونقيضًا: الفنُّ العابر هو ابنُ السهولة والاسترسال، ويتحتَّت مع الزمن كما تتحتَّت عناصرُ بعوامل الطبيعة، أَو كما تتشقَّقُ قماشةُ اللوحة وتتفسَّخ أَلوانها بعد مرور زمن، إِن لم يؤَسِّسْها الرسام، قبل بسْط أَلوانه عليها، بزيت خاص يجعل القماشةَ متماسكةَ النسيج والخيوط مهما طال عليها الزمن.
الفنُّ الْتزامٌ قاسٍ
إِلْتزامي في نثْري لـ”الحميميَّة” الواحدة بعشْرِ كلماتٍ (حدًّا أَقصى) وكلمتَين (حدًّا أَدنى)، هو تمامًا كما الْتزامي، في شعري، بالأَوزان والبحور والتفعيلات والجوازات والقوافي. أَتقيَّد بِها، ثم منها – بل من داخل التزامي بِها – أَنطلقُ للسعي إِلى التجديد. هكذا، يتقاربُ نثريَ الجماليُّ وشعري من دون أَن يتماهيَا أَو يتذاوَبَا.
أَصلًا: لا نَجعَلَنَّهُما يتماهيان. فلِكُلٍّ خصيصتُهُ وميزتُهُ وتعريفاتُهُ. للشعر القصائد، وللنثْر النضائد. كذا تصبح المقطوعة النثرية الجمالية “نضيدَة”، وتبقى المقطوعة الشعرية “قصيدة”.
بلى: للنظْم البارد الموزون الـمُقَفّى لغتُه، وللشعر العالي لغةٌ أُخرى. تمامًا كما للنثر العاديّ لغتُه المنسرحة، وللنثر الجمالي لغةٌ أُخرى، بل “جغرافيا لغويةٌ” أُخرى. ومن هنا التمييز بين مُختلف “اللغات” في اللغة: ليس شعرًا ما ينضح بجماليا التضاعيفِ النثرية، وإِن تكثَّفَ فيه الخيالُ ودَفَقَت العاطفة. وكذلك: ليس شِعرًا ما هو طَنّانٌ في إِلقائه، أَو فضفاضٌ في تعابيره، أَو ضبابِيّ في مضمونه. فلا ننسُبَنَّ إِلى الشِعر ما ليس شِعرًا، ولا إِلى النصوص الوجدانية القصيرة اعتبارها قصائدَ. لكلِّ منحًى أَدبيٍّ عالَمُه النثري أَو الشعري. ولا يؤْذي النصوص الوجدانية (أَقصد النثرية البحتة) أَن تكونَ لها جغرافيا لغويةٌ خاصة.

لا نمزجَنَّ بين الفضاءَيْن
مجدَّدًا: لا ننقلَنَّ إِلى فضاء الشعر ما يسطع في فضاء آخر. فللنثر الفنيّ الجماليّ نعمةُ كتابته كنعمةِ كتابة الشعر. وطوبى لِمن يُعطى أَن يكون ناثرًا أَنيقًا بقدْرِمَا يكون شاعرًا أَنيقًا.
أَيضًا وأَيضًا (وربما مرةً أَخيرة): لا نَخدم النثرَ حين نشبِّهُهُ بالشِعر، ولا نُرضي الشِعر إِذا شبَّهنا به النثر الجمالِيّ. النثر فنٌّ عظيمٌ في ذاته، والشعر فنٌّ عظيمٌ في ذاته. للنثر عبقريةٌ لا تقِلُّ إِبداعًا عن عبقرية الشعر. والشاعر الذي لا يَمتلك الصناعتَين، يظلُّ شِعرُهُ على مسافةٍ من الشعر. ومتى توصَّلْنا، كشعراء، إِلى المباهاة بنثرنا مباهاتَنا بشِعرنا، نكون، ويا سعدنا، استحقَقْنا فعلًا نعمة الصناعتَين: الشعر والنثر.
هوية واضحة للنثر والشعر
إِذًا، النثر الجمالي الفني المشغولُ يتميَّز عن النثر السردي العادي، تَمامًا كما الشِعرُ المشغولُ يَتميَّز عن النظم المسطَّح المتلطِّي خلف “تطريب” الوزن إِلقاءً أَو كتابةً. فالنظْمُ يعطي هيكلَ قصيدةٍ موزونةٍ مقفَّاةٍ تُوصِلُ المعنى بدون روحٍ تثير شهْقة الجمال، والنثر العادي يُوصِلُ المضمونَ بشكلٍ باهتٍ لا حياةَ فيه، أَو هو ذو حياةٍ واضحةٍ مسطَّحة دونَ تأَنُّقِ الجمال.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.