لبنان يفتتح مسيرة الأمل والألم الطويلة
بقلم البروفسور بيار الخوري*
إن إطلاقَ على ما يحصل في لبنان منذ 17 تشرين الأول (أكتوبر) الفائت تعريف “الثورة” يحتاج إلى بعض التحفّظ المُرتَبِط بتعقيد الشرط اللبناني ذات التاريخ المُرَكَّب بين الدولة والجماعة.
ان الفروقات بين تعبيرات الحراك والإنتفاضة والثورة لا تكتسب معاني خاصة سوى بما تختزنه من الأفق الذي يطمح له مَن يُطلق التعبير. فاستخدام تعبير الحراك هو الاكثر تحفّظاً ولكن الأكثر تقاطعاً بين الأراء كونه يشير الى وصف ما يجري من دون الإضطرار الى ترميزه سياسياً. والإنتفاضة هي تعبير أكثر تحفّظاً من ثورة، وتبقى الثورة التي قد تعني صورة مُضَخّمة جداً كما قد تعني حلماً كبيراً جداً لدى مُطلقيها. بهذا المعنى فقط يُمكن استخدام التعابير الثلاثة بطريقة قابلة للتبديل.
هناك نوعان من الثورة: السياسية التي تُغيّر مُديري النظام بدون تغييرٍ النظام الإجتماعي، والإجتماعية التي تُحطّم نظاماً إجتماعياً كاملاً وتُحِلّ مكانه نظاماً إجتماعياً جديداً.
هكذا كانت الثورةُ الفرنسية ثورةً إجتماعية كاملة حطّمت النظام المَلَكي الإقطاعي وأحلّت مكانه الطبقة البرجوازية، وكذلك كانت الثورة الروسية التي حطّمت النظام القيصري لصالح طبقة البروليتاريا والتي أنهتها بعد سبعين عاماً ثورة إجتماعية معكوسة أنتجت الراسمالية الصافية في روسيا.
ثورات “الربيع العربي”، ورغم الإرهاصات الإجتماعية التي اختزنتها، فهي قد أدّت جزئياً الى نتائج سياسية وليس إجتماعية، أي أنها قد أنتجت مديرين جدداً للنظام لا الطبقات التي تُسيطر على النظام.
تتأمّن الشروط السياسية للثورات عندما تتوقّف العلاقات الإجتماعية ونظام توزيع الثروة والدخل عن القدرة على إعادة إنتاج شروط استقرار الطبقات الإجتماعية في ظل سيطرة طبقة قائدة.
لكن توفّر الشرط السياسي للثورات لا يعني في الغالب حصول الثورات وبالأخص إنتصار هذه الثورات، لأن توسّط الوعي العام لضرورة التغيير والإستعداد للعمل بموجب هذا الوعي هو العنصر الحاسم في حصول الثورات ناهيك بانتصارها.
ماذا عن الوعي اللبناني وما حجم المدخلات التي تُشكّل هذا الوعي؟ يُمكن تصنيف الوعي في لبنان كمزيجٍ غير مُحدّد المعالم من العناصر الاتية:
- وعي طائفي عميق ينظر الى الدولة بحذر شديد رغم اندماجه بمؤسساتها، وينقسم تاريخياً (مع تبدل مفهوم للأدوار) بين العداء لاسرائيل والغرب او الانبهار بالنموذج الغربي.
- وعي مؤسساتي ويتقاسمه المحافظون الذين يخشون أي محاولة للتغيير لكونها تحمل خطر الفوضى على ضفة، والثوريين الذين يطمحون الى تغيير مؤسساتي كامل على الضفة المقابلة.
- وعي اعتراضي مُؤسَّس على خليط هجين من روح الثورة والخوف من الانحدار الاجتماعي واهتزاز الكرامة والمشوَّه في معظم الحالات بوعي طائفي نموذجي.
- وعي وطني مُلتبِس بين مَن يُنَظّرون للوطنية بصفتها جزء من مشروع مُناهَضَة اسرائيل وأولئك الناظرون للبنان كوطن له قضيته الخاصة.
لقد جمعت انتفاضة 17 تشرين الأول (أكتوبر) كل هؤلاء في لحظة وطنية استثنائية غير مسبوقة في هذا البلد المُتمَيّز بانقساماته الطائفية. خرج الناس الى الساحات ولكل مشروع ثورته المؤسَّس على تقاطعات الوعي التي يختزنها. لقد اثبت الاحصاء الوحيد المتوفر حتى اللحظة عن التوزيع الطائفي لمؤيدي الانتفاضة ( المؤسسة اللبنانية للارسال وايبسوس) ان أكثر من 93% من الجمهور العابر للطوائف وقف مع هذا الحدث رغم تراجع هذه النسبة أخيراً الى حدود 65%.
هذا التوزيع للوعي ضمن عناصر الحدث يسمح بفهم لماذا لم تكن هناك قيادة مُوَحَّدة للثورة، ولماذا لم يكن هناك برنامج واحد. إن افتراض وجود قيادة جاهزة او سهلة التشكيل ضمن حراك تتنوع مصادر وعيه وأهدافه، كالذي رأيناه في لبنان، هو ضرب من المستحيل، لأن قيادة التغيير هي حدث يُصنَع ضمن الحدث وعلى أرض الحدث. فالحراك/الانتفاضة/الثورة لا زال في مرحلة طفولية (والتعبير سياسي وليس تهكمياً) أولية اعتراضية يحتاج إلى فرز قواه مع تطور الأزمة الإقتصادية والسياسية بما يسمح بغَلَبة وعي على وعي آخر. وبقدر ما يُمكن أن تُشكّل عناصر الوعي فرصة لقوى تغيير حقيقية تُقنع اللبنانيين بصحة خطابها وبرنامجها بقدر ما ستتقدم قوى محددة لتصدّر المشهد القيادي.
بالقوة عينها نستطيع القول ان الفشل في تظهير قوى لديها برامج تغيير مُقنِعة تتقاطع عندها أحلام المجموعة الأوسع من الشعب بغض النظر عن الوعي الموروث، فان الفرصة ستُعطى مُجَدّداً للقوى الرجعية لاستيعاب الشارع والعودة الى الانقسام العمودي وتغليب الوعي الطائفي العميق الذي يُقدّم الطائفة على الدولة، وقد بدأنا رؤية أشكالٍ مختلفة من هذا الإحتمال.
ان شعار “كُلُّن يعني كُلُّن” والذي مثّل شكلياً نقطة التقاطع الرئيسة والأكثر أهمية ضمن خطاب الشارع قد أُعيدت قَولَبته بما يخدم أشكال الوعي المعروضة أعلاه. تراجع تأييد الإنتفاضة سريعاً لدى طوائف محددة حين بدأت الإنتقائية إستخدام هذا التعبير واستهداف قيادات طائفية مُحدَّدة والتسامح مع قيادات أخرى (تفسير مُقنع لتغيّر نتائج الإحصاء المذكور اعلاه). يدل ذلك على حساسية الشعارات الجامعة وإمكانية انقلابها الى تحفيز الوعي الأكثر محافظة ورجعية. استعادة الاموال المنهوبة كان يُمكن أن يُشكّل رافعة أخرى، لكنه جوبه بانقلاب تطهري شبيه لحماية مواقع محددة في السلطة.
أين يقف اللبنانيون الآن؟ لبنان على أبواب انهيار مقاربة اقتصادية اجتماعية كاملة استطاعت الصمود حتى خلال الحرب الاههلية (1975-1990)، وهذا الإنهيار سيجلب معه فرصاً هائلة لإعادة تشكل الوعي كما مخاطر هائلة من فوضى مؤسسة على القلة الإقتصادية وربما الحرب مجدداً. لكن الأكيد أن ما حصل منذ 17 تشرين الأول (أكتوبر) قد أطلق سيرورة تغيير تحتاج لتُنضج وعيها الخاص سنوات طويلة… وآلاماً كثيرة.
- البروفسور بيار الخوري هو أكاديمي لبناني وكاتب في الإقتصاد السياسي.