پكْنِكْ الرُعب على خطِّ التماس

هنري زغيب*

موجعٌ في سُخريته ريمون جبارة (1935-2015)، وحادٌّ وجارح حتى استخدامه تعابيرَ وأَلفاظًا مقذعة من خارج السياق.

سوى أَنه لا يؤْخذ عليه. هكذا هو: سيرةً ومسيرة. وفي ذلك أَصالةُ مسرحه: وضعًا أَو اقتباسًا. ولعلَّ من صُلب مزاجه اقتباسَه سنة 1999 هذه المسرحيةَ بالذات: “پِكْنِكْ عَ خطوط التماسّ”، من ذلك الكاتب الإِسباني بالذات: فرناندو آرابال (م. 1932) عن مسرحيته بالذات: “بِكْنِك في الريف” (1952).

وإِذا في مرارة آرابال أَنه فقَدَ أَباه الجمهوري (سجَنَه الدكتاتور العسكري فرنكو لأَنه معارضٌ حُكْمَهُ، ثم هرَبَ من السجن سنة 1941 وضاعت آثاره وكان ابنُه فرناندو في التاسعة)، ففي مرارة ريمون جبارة أَنه فقَدَ الهناءَةَ في وطنه الذي تتالت فيه الحروب والمشاكل والأَحداث الأَمنية، صغيرُها والمأْساويَ، محليُّها والإِقليميّ، فحرمَت شعبه من أَن يتمتع بحياة هنيَّة ومعيشة رضيَّة.

في أَساس العقدة المسرحية لدى آرابال: الصرخةُ ضدَّ الحرب وعبثية تفاصيلها وأركانها. لذا ينزع (رمزيًّا) فتيل الانفجار بتسخيفه جهلَ القادة والزعماء، وشيطنة العدو (إِيهامًا شعبيًّا وإِيغالًا في السخرية)، وزرْع القلق والرُعب في نفوس المواطنين، وتكسير الأَمن الاقتصادي وكلِّ ما يهدد السلْم والسلام. كل ذلك عبْر والدَين (السيد والسيدة تيپان Tépan) يزوران ولدَهما في الريف كي يُمضيا معه وقتًا هادئًا في مكان يحفل بزقزقة العصافير إِنما أَيضًا بلعلعة القذائف إِبان زخم الحرب. صحيح أَن آرابال انتقل ليعيش في فرنسا هربًا من حُكْم فرنكو، لكنه كتب مسرحيته سنة 1952 وفي باله مآسي حرب 1936-1939 في بلاده الأُمّ. لذا، حين صدرت مسرحياته (نحو 100 مسرحية) في كتاب من جزءَين في نحو 2000 صفحة، جاء على غلاف الجزء الأَول: “مسرح آرابال مجنون، ساخر، فَجّ، مستفِزٌّ، ولو مغلف أَحيانًا بضحكة مريرة”.

جميع هذه العناصر التقطَها ريمون جبارة في اقتباسه رائعة آرابال، وراح يشحنها بالمحليَّات اللبنانية المريرة، قاسيًا مرة، كاريكاتوريًّا مرات، حتى شكَّل من نصه اللبناني تطريزًا ساخرًا في عملٍ، منذ عرضِه الأَول قبل ربع قرن، ما زال صالحًا حتى اليوم بحرفية ما في الموزاييك السياسي الحالي من فساد وقرف وأُلْعُبانيات سياسية أَودَت بالبلاد إلى الهاوية، وما زال قسم كبير من الشعب تابعًا أَغناميًّا ومنقادًا عميانيًّا إِلى زعمائه السياسيين.

من جلسة الريف (في مسرحية آرابال) إِلى خط التماس (في نص ريمون جبارة) تمكَّنت جوليا قصَّار في الإخراج ببراعتها المهنية من وسْم الوضع الأَمني الحذِر بل الخطِر عبْر والدَين (جوزف آصاف ومايا يمين) جاءا يزوران ولدَهما (جوليان شعيا) عند الحاجز الرملي المسلَّح على خطّ التماس حيث رفيقُه وأَسيره (جلال الشعار) من الحاجز المقابل واقعٌ مثْله في وعي ما هما عليه من سقوط في حبائل الزعماء السياسيين لوردات الحروب وسفاهتها، وقتَلَة الأَبرياء بمختلف أَشكال العنف.

نجحت جوليا قصار مخرجةً (لعبَت دور الأُم بإِخراج ريمون جبارة سنة 1999) في ضبط إِيقاع العمل مشدودًا متوترًا بتقنية احترافية ماهرة، وفي إِدارة ممثليها بذكاء مهني عالٍ، ببناء الشخصيات (مزاج الأَب الذي لعب دورَه غبريال يمين في إِخراج ريمون جبارة سنة 1999 وأدَّاه بنجاح مميَّز جوزف آصاف) وحتى الشخصيات الثانوية (كما مع لين بواب وجورج عون) حتى جعلَت من إِخراجها كتابةً مشهدية جديدة لنص ريمون جبارة، وأَثبتَت أَنها مخرجة ساطعة بقدرما هي ممثلة ساطعة.

هذا هو العمل الثاني بإِخراج جوليا قصار (بعد الأَول “تحت رعاية زكور” بإِخراج غبريال يمين) في الرُباعية التي تستعيد أَعمال ريمون جبارة في بادرة أَطلقها غبريال يمين وتبنَّتْها مديرةُ مسرح “مونو” جوزيان بولس محتضنةً بجرأَتها إِنتاج أَربعة أَعمال في شهر واحد، ما يسجِّل احتفاليةً مسرحية تستعيد ريمون جبارة لجيلٍ جديدٍ لم يعرف أَعماله التي ليليًّا تسجِّل حضورًا كثيفًا يُثْبتُ أَن لبنان الثقافة هو لبنان الخالد الباقي إِلى الأَبد.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى