هل يُسفِرُ التنقيبُ عن اسْتِخْراجِ رئيس؟

رشيد درباس*

ديمةٌ سَمْحَة القيادِ سَكُوبُ
مستغيثٌ بِها “الورى المنكوبُ
أبو تمام (بتصرّف)

لم نَلمُس بَعدُ الطرفَ المبلول رُغمَ دخولنا في أيلول. لكننا ما زلنا ننتظرُ الغَيثَ الفرنسي الذي لم تفلح رسالة جان إيف لودريان إلى مَن اصطفاهم من النوّاب في أن تُبشّرنا منه بديمة سكوب، تسلم قيادَ الدولة إلى يدٍ رئاسية سمحة.

أما الحالة السياسية الداخلية، ففي بطالةٍ صيفية تخلّلتها ظواهر واشتباكات وخطابات وتحذيرٌ من الذهاب إلى الحرب الأهلية. لكني كشاهدٍ عاش أيام تلك الحرب، وعانى مع غيره من جرائمها وقذاراتها وأضرارها، أرى أنَّ كثرةَ التحذير منها لا يُعبّر عن حقيقةٍ قائمة ولا وشيكة، لأنَّ اندلاعَ القتال الداخلي مُجدَّدًا يحتاجُ إلى ظروفٍ وإمكانيات وتسليح، وأموال واستقطابٍ خارجي وأهدافٍ ملموسة، وهذه كلها غير متوفّرة في الوقت الحاضر أو المنظور.

فمنذ العام 1969، مرورًا بالدخول السوري ثم خروجه، وبينهما الاجتياح الإسرائيلي الذي عجز عن إنشاءِ حالةٍ سياسية تناسبه، كان جوهر صراعات تلك المرحلة يدور بالدرجة الأولى حول القضية الفلسطينية ومن سيمسك بزمامها، أو يستثمر في تطوراتها. وقد عجزت القوى اللبنانية الوازنة في ذلك الوقت عن إنتاجِ تسوية داخلية تتدارك تحويل لبنان ساحة صراع، فشرعت أبواب الوطن أمام تسلّح داخلي وتركيبات سياسية وتنظيمية مُستحدَثة، تلبس براقع لبنانية، وتتحرّك وفق إراداتِ القوى الخارجية ذات النفوذ المُتسلّل إلى الطوائف بذرائع كاذبة، فتارةً هنا وتارةً هناك، كالموقف السوري المُتقلّب مراتٍ عديدةً بين الأفرقاء، تحالفًا وتحاربًا.

الصراعات اللبنانية-اللبنانية، لم تكن إذًا إلّا قشرةً تستَّر بها المتصارعون الإقليميون والدوليون. فلما حصل اتفاق أوسلو وانتهت قطيعة مصر، وخابت نتائج الغزو الاسرائيلي، رضيت الميليشيات اللبنانية بتسليم سلاحها، لأنَّ نزاعاتها الداخلية، على جِدِّيِّتِها، لم تكن سوى مسرحٍ للُّعبة الخارجية. أما ما نراه اليوم من بعض المبالاة “الخماسية” فيغلب عليه رفع العتب، تمهيدًا للتنصّلِ من كيانٍ نجح أصحابه في زَجِّه في المحرقة، وفشلوا بعد ذلك فشلًا ذريعًا في استنقاذه، بل ذهبوا بملء الإرادة من جهة، وكامل التهاون من جهة أخرى، يبحثون له عن معمعةٍ جديدة، إلى أن أصبح منصةً بمنابر عديدة يجري من خلالها التراشق بالعصور الحجرية دون المرور بالعصور البرونزية.

ملاحظة هامشية أُوَجِّهها لمَن يبحثون عن الحلول الفيدرالية الموَسَّعة، أنهم سيكتشفون عاجلًا أم آجلًا أنَّ الانقسام لا يُولِّد وحدات متينة، بل خلايا جديدة خبيثة التكاثر. وأستَطرِدُ فأقول أنظروا إلى الفوضى المُستدامة في كثيرٍ من دولِ العرب، حيث الصراعات الإتنية أو المذهبية ليست سوى تبريرٍ سطحي لسحب دور سوريا والعراق من الصراع العربي-الإسرائيلي، وجعل السودان الخصيب جديبًا حتى ينسى أنه جُزءٌ عزيزٌ من أمّةِ العرب، وتحضير ليبيا للصلح على أن تظلَّ مقبرةً تطلب المزيد من أهلها، ليبقى النفط سلسبيلًا بخسًا جاريًا إلى خَزَّانات الدول التي ترعى تلك النزاعات.

ضربتُ هذه الأمثال للتأكيد على أنَّ لبنان لا يختلف حاله عن دولٍ شقيقة ذهبت إلى المأساة ولمَّا تخرج منها بعد، بسبب قياداتها التي تَلَهَّت بالمُناكفات وأغفلت البحثَ عن الجوهر.

عندما اسْتُهْدِفَتْ دولة الطائف في اللحظة الأولى لإنشائها باغتيال الرئيس رينيه معوض، جرت محاولةٌ للحفاظِ على شكلها، وقامت ورشاتٌ كبرى لإزالة آثار الحرب، وحصلت انتخاباتٌ نيابية وبلدية، وعمّت الكهرباء، وعادت العاصمة لؤلؤة الشرق. فلما تمادى “بعضنا” في توطيد ركائز تلك الدولة، نُسِفَتْ ظهيرةَ ذلك اليوم من شباط من العام 2005، في  تواطؤٍ خبيث بين جهات تآلفت حول فكرة جعل لبنان مُرتهنًا لصراعاتٍ لا تنتهي. ولكن الشعب عبّرَ عن حيويته المذهلة مرتين، الأولى في 14 آذار/ مارس، والثانية في 17 تشرين الأول/أكتوبر، وفي المرتين، أثبتت القيادات أنها لا تُحسِنُ الإدارة، ولا تتمتّع بالرؤية البعيدة، ولا تملك زمام المبادرة، ولا تؤلّف تحالفات قوية، بما ضيّع استتثمار الحدَثَيْن، أو أرجأ ذلك ليومٍ قد يأتي!

كلُّ السطور السابقة مُقَدّمة طويلة لموضوعٍ مُختَصَر يقتضي التعامل معه بشجاعة ووطنية وإرادة قوية ونظيفة. فليس خافيًا على أحد أن الأطرافَ الأقوى في المعادلة اللبنانية، على مرِّ الحقبات التي ذكرت، كانت تستهزىء بالدستور وبالاستحقاقات، وَتُدْخِلُ الدولة في فترات طويلة جدًّا من فراغ رئاسي ممض، تقوّضت معه الأعمدة، وتفسّخت الجسور؛ فبعد انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل، حُكِمَ لبنان من حكومَتين مُتنابذتَين وقوى مسلحة منقسمة، إلى أن انتُخِبَ الرئيس الياس الهراوي، ومن ثم جرى إنهاء استعصاء العماد ميشال عون. وبعد انتهاء ولاية الرئيس إميل لحّود عادت الرئاسة إلى صالةِ الانتظار حتى انتهى مؤتمر الدوحة إلى ما انتهى إليه. أما الفترة الطولى فكانت بين نهاية ولاية الرئيس ميشال سليمان حتى الرضوخ والقبول بالرئيس ميشال عون، ونحنُ الآن نعيشُ دورةً أخرى من الفراغ والاستهزاء بالدستور لا ندري متى تنتهي، لأنَّ الأطرافَ الفاعلة تخندقت وبنت متاريس من المطالب الإسمنتية، وهي تعلم تمامًا، أنها إذا لم تبادر إلى فتح كوى لحوارٍ منطقي لا يقوم على القسر والإرغام ومدعم بالمصداقية، يمكنها أن تبقى في خنادقها حتى العفن. وبعبارةٍ أخرى، فإنَّ محوَرَ المُمانعة يسعى إلى تحويلِ السيطرة الفعلية إلى استكمال شرعنتها، فيما محور المعارضة، يستقوي بتشدّده السياسي شبه الخالي من الفاعلية العسكرية ومن المهارة، وكلا المحورَين يعلمان أنه إذا لم يتم انتخاب رئيس، فإنَّ الأرضَ ستميد تحت الأقدام كلها، بما يوجب الذهاب إلى مرشَّحٍ لا يُسْعِدُ أيًّا منهما، أو يغضبه، وذلك حفاظًا على ما تبقّى من الدولة، وفتح باب الحلول الواقعية. فإذا كان المُمانعون يرون أن مفتاحهم لهذا الباب، مصبوبٌ من معدنٍ أصيل وثمين ومتين، وكان المعارضون يتمسّكون بمفتاحٍ إلكتروني حديثٍ متطوّر، فالعبرة ليست بالمفاضلة بين جودة أيِّ من المفتاحين، بل بالمقدرة على فتح الباب الموصد، وإذا اقتضى الأمر البحث عن مفتاحٍ جديد أو إجراء تعديلاتٍ ما على أحدهما، وجب التفاهم على ذلك لأن العبرة بالدرجة الأولى بانفتاح الأقفال والخروج من الانسداد القائم.

أن يكونَ للبنان رئيس جمهورية، أمرٌ يتقدّم على كلِّ شيء، لأنَّ الحال إذا تمادى قد يصل بنا إلى زوال المنزل مع بقاء الباب موصَدًا.

نُطالعُ الصحف ونتابع التعليقات، فنرى معظمها يتمحور حول تفاهمٍ إيراني-سعودي لا بدَّ منه ليفك عقدتنا، وربما كان هذا صحيحًا في جانبٍ منه -كما لمّحَ الرئيس إيمانويل ماكرون- ولكن الجانب الآخر من الموضوع يقتضي منّا أن نُعِدَّ أنفسنا وعقولنا لتقبّل الجرعات المستوردة، تحت طائلة نفض اليد منّا ومن عجزنا ومكابرتنا، وهذا ما رأيته في رسالة (لودريان): أنها رفع عتب قبل إدارة ظهر أصدقائنا لنا.

هذا الكلام أربطه بمقالي الشهر الماضي عن (الحريرية بين التعليق والعلق) لأنَّ تضعضعَ الموقف السياسي للطائفة السنية لا يعوّضه لقاءٌ من هنا، ووليمة من هناك؛ ذلك أن العصبَ الذي انطلق في الرابع عشر من آذار/مارس، والغضب المتفجّر في السابع عشر من تشرين الأول/ أكتوبر، لا يمكن أن يلتقيا على خيرٍ في ظل استقالة طائفة تأسيسية من فعاليتها، بل أكاد أقول من وجودها السياسي، لأنَّ التسوية الوطنية برمّتها تصبح مستحيلة إذا لم تكتمل عناصرها كافةً.

هذا الكلام أخصُّ به على وجه التحديد الرئيس سعد الحريري المُطالَبِ بالخروج من صمته، وكذلك بعض العرب الذين لم يتركوا لبنان يقع في زمن الاعتداء الإسرائيلي، فهل يتركونه للانهيار الكامل مُكتَفين بالفرجة على التراشق بحجارة العصور، واستعراض العضلات الكلامية؟

هل أنا بحاجة للتذكير أن رفيق الحريري عاد إلى بلده المُدَمَّر بمشروعه السلمي التنموي، مدعومًا بالهبات السعودية ومُنفقًا مما جناه من ثروة في المملكة؟

هل نسينا أنه أنشأ أنبوب نفط افتراضي من المملكة إلى لبنان بتشجيع لا حدود له من تلك الدولة الشقيقة؟

هل نسينا غضب الملك عبدالله بن عبد العزيز والأمير سعود الفيصل يوم اغتيال الرئيس الشهيد، وأن ولده سعد، تولّى مهمته من غير سابق توقع أو استعداد، وذلك بدعمٍ مضاعف من المملكة؟

فلماذا إذًا، نتبع التَّقِيَّة والمواربة ولا نضع الإصبع على الجرح، لنسأل من “يهمهم الأمر” عن حقيقة الأمر، ومتى يمكن لهذه الدولة المظلومة ان تعرف رأسها من رجليها؟

أخلص من هذا للفت النظر إلى المصير السوري المحزن، والوضع العراقي المقلق، والحالة الليبية الملغزة والمحيّرة، والانتحار السوداني المفجع، وأحذّر من أنه إذا كانت خطةٌ ما تُعَدُّ لإلحاقنا بما يشبه الحالات المذكورة، فإنه لم يزل بالإمكان تدارك الأمور حتى لا نكرّر الأخطاء التي ارتُكِبَت، ونستنقذ الدولة قبل فوات الأوان. لا أحد ينكرُ أن الانقسام السياسي شبه الطائفي محتدم جدًّا، ولكنه لا يفضي إلى أية حرب أهلية للأسباب التي ذكرت، ولوجود جيش وطني ومتماسك وقوى أمن لم تستقل من واجباتها.

تبقى الملاحظة التي من شأنها أن تحرِّضَ على التسوية الداخلية، وهي أن فرنسا اليوم لا تفاوض نيابة عن المسيحيين، ولا السعودية عن السُّنَّة وباسمهم، فإذا كان دور الخماسية مقتصرًا على تبريد الظرف الإقليمي حولنا، وتذليل بعض العقبات، وتشجيع الأطراف على إنتاج معادلة، ولو مؤقتة، نكون قد نجونا من الذهاب إلى نوعٍ من أنواع الفوضى التي يعيش فيها بعض أشقائنا.

لبنان يستحق الاستقرار، وقد آنَ له أن يستريح كما فعل الإمام أبو حنيفة عندما تبيّنَ له كم أنَّ الجوهرَ يختلف عن المظهر، حيث لم تعد تنطلي علينا المعارك اللفظية التي تشبه الألعاب النارية. كذلك لن يهتمَّ اللبنانيون بالصراع الـمُخلَّق، بين الفصلين السادس والسابع من ميثاق الأمم المتحدة، بعد أن أستهلكوا فصولنا وسنواتنا بل معظم أعمارنا. ولقد صدقَ مَن قال إن قرارات مجلس الأمن ليست سوى حبرٍ على ورق، لأنها كذلك منذ نكبة فلسطين، فعلامَ إذن تلك الضجّة المُفتعلة، وإلامَ يرشُّون لنا سُكَّرًا فوق الموت، ويعوِّضون علينا بعد نَهْب ودائعنا بإطلالة آموس هوكستين،  وإلهائنا بوديعةٍ إلهية افتراضية تحت قاع البحر، مُهلِّلين للحفَّار المتعدد الجنسيات، بأنه سيستخرج غازًا بديلًا من أوكسيجين التنفس، فيما المطلوب من التنقيب أن يستخرجَ لنا رئيسًا، يُغَوِّزُ غازنا السائل كي لا تغري سيولته دعاة الصناديق الائتمانية بِتَجَرُّعِها على جاري عادتهم.

  • رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى