لبنان على فُوهَةِ الانفجار: بَينَ حَتمِيَّةِ التَصعيد وضِياعِ الدولة
يقفُ لبنان اليوم على حافةِ مرحلةٍ وجودية غير مسبوقة، فيما تتشابَكُ الضغوطُ الإسرائيلية بالانهيارِ الداخلي وتتصاعَدُ المُؤشِّرات نحوَ انفجارٍ أمني كبير. وفي ظلِّ غيابِ الدولة وتَصَلّبِ المواقف، تبدو البلادُ وكأنَّها تُساقُ دفعًا إلى خيارٍ لم يَعُد أحدٌ قادرًا على تجنّبه.

ملاك جَعفَر عَبَّاس*
يَجِدُ لبنان نفسه اليوم أمامَ استحقاقٍ وجودي لا يَترُكُ له سوى التعلُّقِ بمُعجِزة. فمع اقترابِ انتهاءِ المُهَلِ التي منحتها إسرائيل لحَصرِ السلاح بيد الدولة وتفكيك البُنية العسكرية والأمنية لـ”حزب الله” قبلَ نهايةِ العام، يرتَفعُ مَنسوبُ الخطرِ إلى مستوياتٍ غير مسبوقة. وفي الخلفية، تتكاثَرُ مؤشّرات الانزلاق نحو اقتتالٍ أهلي جديد، كأنَّ البلادَ تقفُ بين شبَحَين مُتقابلَين: عدوانٌ خارجي يُهدّدُ الكيان، وتَصَدُّعٌ داخلي يُهدّدُ المجتمع.
ومع كُلِّ يومٍ ينقضي من دونِ صدورِ تكليفٍ شرعي من المرشد الإيراني علي خامنئي يأمُرُ “حزبَ الله” بالتخلّي عن سلاحه، يزدادُ اقترابُ الجنوبيين والبقاعيين وسكان الضاحية الجنوبية لبيروت من مُواجَهةِ مصيرٍ شبيهٍ بما عاشه أهالي خان يونس ورفح وبيت لاهيا تحت نيرانِ الحرب في غزة. للشيعة فلسفتهم في الانتظار، لكنَّ العالمَ نفدَ صبره. فالتحذيراتُ الدولية والعربية التي يسمعها اللبنانيون يوميًا باتت تُحَدِّدُ ساعةَ الصفر والمدى الجغرافي للعملية الإسرائيلية المُوَسَّعة. داخلُ هذا المشهد، لا يسمع “حزب الله” إلّا ما يأتيه من طهران، والأخيرة تقول بوضوح أنَّ بقاء “الحزب” أهم من الخبز والماء والاستقرار بالنسبة إلى لبنان.
وعليه، يُصبِحُ التصعيدُ الإسرائيلي أقرب إلى حتميةٍ مرسومة، لكنه —في أسوَإِ الاحتمالات— قد لا يكونُ الخطرُ الأخير الذي يتهدّدُ اللبنانيين. فازدواجِيةُ خطابِ “حزب الله” في ما يتعلق بسلاحه الواقع جنوب نهر الليطاني وشماله، أعطى انطباعًا لكثيرٍ من اللبنانيين أنَّ التقسيمَ بين السلاحَين ليس جغرافيًا فحسب، بل في العُمقِ وظيفيًّا. فسلاحُ جنوب النهر هو ضد إسرائيل، أمّا سلاحُ شماله فهو ضدّهم. وهذه القناعة بنوايا “حزب الله” العدوانية تتعزّزُ يوميًا لدى خصومه، والحقيقة أنهم يُبادلونه المستوى نفسه من الكراهية.
وفي قلب هذا التجاذب، تقفُ الدولة اللبنانية مشلولة: سلطةٌ مُتآكلة، مُؤسّسات مُنهَكة، وصراعاتٌ بين أركانها تُعيقُ قدرتها على اتخاذِ القرار، فيما يضغطُ المجتمع الدولي لإنجازِ ما عجزت عنه الدولة طوالَ عقودٍ ضمنَ مهلةٍ لا تتجاوز عامًا واحدًا. وبصرفِ النظر عن النيّات، وما يُقالُ سرًّا أو علنًا، فإنَّ المؤشّرات الموضوعية على احتمالِ انزلاقِ البلاد نحو اقتتالٍ داخلي تتراكَمُ وتتشابه —بصورةٍ مُقلقة— مع المعايير التي تعتمدها الدراسات الأكاديمية لرَصدِ بوادر الحروب الأهلية.
الطائف المَنقوص وانهيارُ هندسة ما بَعدَ الحرب
لقد مرَّ أكثرُ من ثلاثةِ عقود على نهاية الحرب الاهلية، ومع ذلك، بقيت خطوطُ الصدع الطائفية على حالها، رُغمَ سنواتٍ من الهدوء النسبي، وتَغَيُّرِ كثيرٍ من اللاعبين وتبدُّلِ مواقعهم. فاتفاقُ الطائف، الذي أنهى الحربَ صيغَ كعَقدٍ اجتماعي جديد يؤسّسُ لدولةٍ حديثة، لم يُطَبَّق يومًا كما يجب. تعرَّضَ أوّلًا لسطوةِ النظام السوري البائد الذي ابتلعَ القرارَ السياسي اللبناني طوال سنوات. ثم جاءَ دخولُ اللاعب الإيراني لاحقًا إلى المشهد مُسَيطرًا بواسطة “حزب الله” على القرارِ السيادي بالحرب والسلم، واكتفاء السياسيين المحلّيين بالقطعة المُخَصَّصة لكلٍّ منهم من “قالب الجبن” الذي ما فَتئ يتعفّن منذ ذلك الوقت. ودخل لبنان في عاصفةِ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) وهو دولةٌ بلا رئيس، وبلا مؤسّساتٍ فاعلة، وباقتصادٍ مُنهارٍ يَنهَشُهُ الفساد، وبسلاحٍ يُهَيمنُ على الدولة ويُفرِغها من معناها ومضمونها. ولم تؤدِّ الحربُ الإسرائيلية خريف العام الماضي إلى تدميرِ “حزب الله” وسلاحه بقدر ما دمّرت بُنيان التكاذُب المُتبادَل والمعروف لبنانيًا باسم الديموقراطية التوافُقية، وهي نوعٌ من الإعجازِ السياسي يكادُ لبنان يتفرَّدُ فيه عن باقي دول العالم.
ضباب الحرب
تداخَلَ انفجارُ الإقليم مع الأزمة البنيوية الداخلية، فغرقَ لبنان في ما يُسمّيه مُنَظِّرُ الحروب كارل فون كلاوزفيتز “ضباب الحرب”، حيث تتفلت الديناميات التي تَنتُجُ عن المعركة من الحساباتِ المُسبَقة للمتحاربين. فقد أدّى القرارُ المُتسرِّع والخاطئ بالدخول في ما عُرِفَ ب”حرب الإسناد” لغزة إلى ردّة فعلٍ إسرائيلية قاصمة نسفت قواعدَ الاشتباك المُتعارَف عليها، وكشفت عُمقَ الترهُّلِ الأمني في بُنيةِ الحزب التنظيمية، وضحالة قدراته العسكرية في مقابل التطوُّر العسكري والتكنولوجي الهائل للجيش الإسرائيلي. كما أدّت الهزيمة العسكرية ل”حزب الله” إلى تحويلِ السعي الإسرائيلي للقضاء على سلاحه إلى مطلبٍ دولي، وهي تضعُ لبنان اليوم أمامَ خياراتٍ صعبة لم يكن صانعُ القرار في بيروت ولا في طهران مُتَهَيِّئًا أو مُستَعِدًّا لها.
ولا يكفي منظور كلاوزفيتز الذي يُركّزُ على الحروب بين الدول والجيوش التقليدية لفَهمِ التداعيات الداخلية للحرب، بل يجب النظر إلى ما يطرحه مُنَظِّر الحروب الأهلية البروفسور “بيل كيساين” (Bill Kissane) في كتابه “أُمَمٌ مُمَزّقة” (Nations Torn Asunder) الذي يَنظُرُ إلى النزاع الأهلي بوصفه مُنتِجًا لتفاعُلات النُخَب، وتفكُّك الشرعية، وسباق التسلُّح الناجم عن عسكرة الهوِيّات المُتصارِعة عندما تفشلُ الدولة في احتواءِ الشكوك المُتبادَلة. فسلوكُ النُخَبِ المُتمثّلة في القيادات السياسية للدولة، والأحزاب ومنظّمات المجتمع المدني، ووسائل الاعلام، ومؤثّري وسائل التواصل الاجتماعي، يُطلِقُ دينامياتٍ اجتماعية وسيكولوجية تتجاوَزُ قدرتها على التَحَكُّم بها. فالاستثمارُ في خطابِ الكراهية من خلالِ دَفعِ الأموال الطائلة لتمويل المنصّات وال”بودكاستات” والبرامج السياسية ومجموعات الواتساب، وغيرها الكثير من أدوات التعبئة، لبثِّ خطابِ التحريضِ والإلغاء يُعيدُ إحياءَ خطوطِ الصدع الهوياتية الكامنة، ويخلقُ كانتوناتٍ طائفية مُتَخَيَّلة تتحصّنُ فيها المخاوف وتتكاثر الشكوك بالآخر ونواياه كالفطريات في ظلامِ الأفكار والجو السياسي الفاسد. وبحسب “كيساين”، تستخدمُ النُخَبُ المُتنافِسة الهويّات كسلاحٍ تعبوي عندما تفشلُ في تحقيقِ السلطة عبر القنوات الرسمية للدولة. وعندما تعجزُ الطبقة السياسية عن التوافُقِ وإدارة الأزمة، يتحوَّلُ الشللُ السياسي إلى مرضٍ عضال يَضرُبُ أُسُسَ العقد الاجتماعي في الصميم، فيُصبِحُ السلمُ الأهلي في خطر.
مُعضِلةُ الأمن الأهلي وعَودَةُ شَبحِ التسلّح
كلُّ ما سَبَقَ ذكره لا يكفي لإشعالِ حربٍ أهلية بلا العنصر الأهم وهو السلاح. وبقدرِ ما تنفي الأحزابُ السياسية نيّتها وقدرتها تحويل الأزمة السياسية إلى نزاعٍ مُسَلَّح، لا يُمكِنُ تجاهُل العوامل المُنتِجة لسباقِ تسلُّحٍ بين المعسكرات المُتخاصِمة بفعلِ ما يُعرَفُ بمُعضِلةِ الأمن الأهلي. فتنامي الشكوك بوجهة السلاح المُقبِلة بعدما أصبحَ غيرَ فاعلٍ في مُواجهة إسرائيل، سيدفعُ خصومَ “حزب الله” (إن لم يكن قد دفع فعلًا) إلى التفكيرِ في حمايةِ أنفسهم من خلال السعي إلى امتلاكِ سلاحٍ مُضاد، خصوصًا في ظلِّ عجز الدولة عن إقفال هذا الملف بالطُرُقِ السلميّة حتى الآن. فعزوفُ الجيش اللبناني عن الدخولِ في احتكاكٍ خَشِنٍ مع “حزب الله” وبيئته لحَصرِ السلاح بيد الدولة لا يَمنَعُ حدوثَ هذا الاحتكاك مع لاعبين آخرين، خصوصًا إن ضعفت الثقة الخارجية والداخلية بقدرة المؤسّسة العسكرية على احتكارِ العنف المشروع، وتراجُع الدعم المادي والمعنوي لها.
لا يحتاجُ اللبنانيون إلى التفكير كثيرًا لإيجادِ وسائل الأمن الذاتي وخَلقِ المعازل الطائفية، فقاموس الحرب الأهلية يزخرُ بالأمثلة، وهو حاضرٌ لرَفدِ الحاضر بفظاعات الماضي. وإذا ما أقدمت مجموعةٌ هامشية من أقصى اليمين المسيحي أو السُنّي أو الدرزي إلى تخزين شيءٍ من السلاح تحت شعارِ حمايةِ نفسها من السلاح الشيعي في الداخل، فسيَتَّخِذُ “حزب الله” من ذلك ذريعةً لتأكيد سرديته أنَّ “المقاومة” وبيئتها في خطرٍ وجودي لا حمايةً منه إلّا بمزيدٍ من السلاح والتماسُك حول الهوية بمعناها الضيِّق. هكذا تُدخِلُ المُعضِلة الأمنية الجميع في دوّامةِ التسلُّح التي تزيد من احتمالات نشوب الحرب الاهلية، ليس بالضرورة بقرارٍ واعٍ بقدر الانزلاق التدريجي نحو الهاوية خصوصًا إذا ما ترافق مع حربٍ إسرائيلية تؤدّي إلى موجةِ نزوحٍ طويلة الأمد، وإلى مزيدٍ من الاستنزاف لموارد الدولة.
كما قد لا يحتاجُ اللبنانيون إلى مزيدٍ من التهويل بالويل وعظائم الأمور، فحياتهم اليومية تزدَحِمُ بالأسئلة المصيرية ومُثقَلَة بما يكفي من المخاوف والضغوط والهموم المعيشية. لكنَّ مسؤولية النُخَب —وفي مقدمتها النُخبة الشيعيّة— تبقى مضاعفة في هذه اللحظة الحرجة: مسؤولية حماية الدولة والمجتمع، وخصوصًا جمهور “المقاومة”، من الأخطار التي تتقاطع المعطيات الواقعية والنظريات الحديثة للنزاعات في التحذير منها. ثمّةُ حاجة إلى وَقفةٍ مع الذات تُبطئ هذا الاندفاع الأعمى نحو الهاوية، وإلى التقاطِ الفُرَص التي تُوَفِّرها المبادرات العربية والدولية لتَجَنُّبِ انزلاقِ البلاد إلى حمّامِ دمٍ جديد. وآخر تلك الأصوات جاء من المرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني، الذي عاد ليُحذّر من مغامرةٍ ستكونُ أثقل كلفة من “حرب الإسناد”. يومها لم تُصغِ قيادة “حزب الله” إلى التحذير. فهل تفعل اليوم؟
- ملاك جعفر عباس هي كاتبة سياسية وإعلامية لبنانية حاورت شخصيات عربية وعالمية عدة خلال عملها في شبكة “بي بي سي نيوز عربي”. وقد تخصصت في دراسة مكافحة الإرهاب والجماعات المسلحة في جامعة كينغز كولدج لندن. يمكن التواصل معها عبر منصة “ Linkedin“ على: linkedin.com/in/malakjaafar




يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.