في حديث الشعر (23)

هنري زغيب*
مرَّ في أَكثر من حلقة في هذه السلسلة، تشديدي على التمييز بين الشعر والنثر، وأن الشعر لا يكون في القصيدة فقط، بل في أَيِّ لَمعة جمالية، في الشعر أَتت، أَو في النثر. فالمبدع، (شاعر أَو ناثر)، إِذا كان فارسَ لُغَة، أَطاعتْه اللغة لقصيدته ونضيدته معًا، لأَنه سيُطْلِع منها، في شعره أَو في نثره، تُحفةً فنيةً مشغولةً بِمخاضِ ولادةٍ يتطلَّبه كلُّ نصٍّ إِبداعيّ.
في هذه الحلقة، أَتناول التوأَمة بين قصيدة الشاعر ونضيدة الناثر، مع نموذجين ساطعين: خليل رامز سركيس نثرًا وجوزف صايغ شعرًا.
“جعيتا”
خليل رامز سركيس (1921-2017) يؤكَّد على “وعْي القلمِ توأَمَي الشعر والنثر معًا في حسْم قول”. هذا، إِذًا، كبيرٌ في النثر يساوي النثر بالشعر دفاعًا من جهة الشعر عن عظَمة النثر الذي لا يقلُّ هيبةً وصعوبةً وجمالًا عن الشعر (هل سعيد عقل، في نثر “لبنان إِن حكى” و”كتاب الورد” و”كأْسٌ لِخمر”، أَقلُّ إِبداعًا جماليًا منه في شعر “قدموس” و”رندلى” و”دُلزى” و”نَحْتٌ في الضوء” و”شرَر”؟).
أَقتطف هذه الفلذة الجمالية من كتاب “جعيتا” لخليل رامز سركيس: “إذا حسِبْتُني شيئًا وحسبْتُكِ شيئًا، لن يبقى ما يوجب التسآل، لأَن التملُّكَ يُصبح استبدادًا وعدوانًا. أَما إِذا حسِبْتُني شخصًا وحسِبْتُكِ شخصًا، وجُبَ التَسآل وتهيَّأَ الجواب: أَن تكوني لي، هو أَن أَملكَ نفسي. وأن أَكون لكِ هو أَن تملكي نفسك. كلٌّ منا هو، مع حريته، اتِّجاهُ الْتقاءٍ واتِّزانُ مصير”.

“القصيدةُ باريس”
في كتابات جوزف صايغ (1928-2020) نصائعُ قصائدَ، تتكوكبُ بينها نصائعُ نثريةٌ لا تقلُّ نَحتًا “صائغيًا” عن أَخواتها القصائد (هل من السهل بلوغُ قمة “آن كولين” في النثر الجمالي العالي؟). ولأَن جوزف صايغ ناثرٌ متمكِّن، بقدْرما هو شاعرٌ متمكِّن، لا يَجنح إِلى أَيٍّ من تسميات قاموس الشعر يُلصِقُها بكتاباته النثرية، الصقيلة هي الأُخرى كهيافته الشعرية الصقيلة.
أَقتطف من “القصيدة باريس”:
نهضَت فوقها التماثيلُ تحيا من جمادٍ حياتَها الحجَريَّه
عند تُخْمِ الفضاء تمشي عذارى صوب أَحلام حُبِّها العُذْريَّه
واكبَتْها من الدُهُور دهورٌ، تلك بادت وهذه الدهريَّه
وهذه القصيدة من 184 بيتًا على قافية واحدة وبحرٍ واحدٍ (الخفيف)، نَحَتَها الشاعر بجماليا فريدة.
النضيدة والقصيدة
هكذا إِذًا: لأَن خليل رامز سركيس قمةٌ في النثر العالي، لا يَضيرُهُ أَنه لم يُقارب الشعر.
ولأَن جوزف صايغ قمةٌ في الشعر العالي، لا يَجد حاجةً (كي يَرفع من شأْن نثره) أَن يُدنيه من قاموس التسميات الشعرية. ففي كتاباته الكاملةِ البَهاء، شعرًا ونثرًا، غبطةُ الوقوف المنسحر أَمام جمالٍ منحُوتٍ صرحًا فنيًا عاليًا واضحَ المعالم والشخصية المستقلّة بين شعره ونثره، بعضه نثرٌ “في مقام الشعر” (كما يُحدِّد هو ذاته) ولكنه يبقى نثرًا وليس شعرًا.
وهكذا…
نَحنُ مع جوزف صايغ: أَمام شاعرٍ كلاسيكي كبير يمتلك أَدواته الشعرية بامتيازِ فارسٍ يعرفُ كيف يُروِّض أَحصنةَ البحر والوزن والقافية والرويّ في تَجديدٍ عصريٍّ “حديثٍ” من ضمْن الأُصول.
ونَحن مع خليل رامز سركيس: أَمام ناثرٍ كلاسيكي كبير يمتلك أَدواته النثرية بامتياز فارسٍ يعرف كيف يروِّض أَحصنة التراكيب البيانية فَيَربَأُ بها عن السرد التقريري ليرتفع بها إِلى أَسمى النثر الجمالي العالي.

الوحدة الدائمة
الكلمةُ مُعطاةٌ لكُل قلم.
تَمايُزُها يكونُ مع “مَن” يُؤَطِّرها لعبةَ تركيبٍ جماليَّةً غيرَ معطاة إِلَّا للمبدعين.
الكلمة، الكلمة!
إِنها الـ”أَلفا” والـ”أَوميغا”.
فَلْنَنْحتْها بإِزميلٍ لائقٍ، شعرًا نَظَمْناها قصيدة، أَم نثرًا نسجناها نضيدة.
الصورةُ الإِبداعية، حيثما تكون، تَضيع تائهةً إِن لم تكُن في إِطار هويَّةٍ ناصعةٍ ذاتِ جُذُورٍ مؤَصَّلةٍ واضحة.
فَلْنَحترمْ هذه الهُويَّة.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت – دُبَي).




يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.