إلى أَينَ تَقودُنا السياسةُ الاقتصادية الأميركية؟
محمد العريان*
على الرُغمِ من أنَّ هذا العام لم يَنتهِ بعد، فمن المرجح أن يُسَجَّلَ في كُتبِ التاريخ كعامٍ شَهِدَ تقلُّباتٍ حادةً ناجمةً عن السياسات، ليس فقط في الأسواق المالية، بل أيضًا في السرديات الاقتصادية والعلاقات الدولية. لكن يبقى أن نرى إلى أينَ سيقودُنا هذا. هل نشهَدُ تفكُّكًا للنظامَين المحلّي والدولي للولايات المتحدة، أم أننا نسيرُ في طريقٍ وَعِرٍ نحو إعادةِ هيكلةٍ مُفيدةٍ لكليهما؟
لقد شَهِدنا بالفعل هبوطًا حادًا لمؤشّر ستاندرد آند بورز 500 (S&P 500) (إنخفاضًا بنسبة 20% عن أعلى مستوى له أخيرًا) ليعود ويستقر في نهاية المطاف بدون تغييرٍ يُذكَر خلال العام. تذبذبت عوائد السندات، ويعودُ ذلك جُزئيًا إلى توقُّعاتٍ اقتصاديةٍ كُلِّيةٍ مُتقلِّبةٍ بشكلٍ مُقلق. بدأت احتمالاتُ الركودِ الاقتصادي في الولايات المتحدة هذا العام عند أقل من 10%، وبلغت ذروتها في نيسان (أبريل) عند نحو 70%، ثم عادت وتراجعت إلى ما دون 40% بعد شهرٍ واحدٍ فقط.
وتذكّروا أنَّ الولايات المتحدة ليست أكبر اقتصاد في العالم فحسب، بل بفَضلِ مؤسّساتها الناضجة وأسواقها المالية المَتينة، وبصفتها مُصدِّرًا للعملة الاحتياطية العالمية، فهي من يأتمنها الآخرون على مُدّخراتهم وثرواتهم. ما يحدثُ في الولايات المتحدة لا يبقى فيها. فلا عجب أنَّ “تدابير عدم اليقين” للشركات والأُسَر كانت استثنائية هذا العام. وكما لاحظَ جاستن فوكس، المُحلل في “بلومبيرغ”، “لم يسبق أن شعرَ عدمُ اليقين بهذا القدرِ من عَدمِ اليقين”.
السببُ المباشر هو تقلُّبُ سياسة التعريفات الجمركية الأميركية، والتي أثارت ردودَ فعلٍ من دولٍ أخرى ذات أهمّية نظامية. لكن التجارة ليست القضية الوحيدة. فمع سعي الولايات المتحدة ودول أخرى إلى فَرضِ قيودٍ على الدَين والعجز، فقد استيقظَ حرّاس السندات من سباتهم. وفي هذه العملية، تقوّضت الارتباطات التقليدية بين الأسهم والسندات والعملات الأميركية، ويبدو أنَّ المحاولات الأخيرة لتقليص أو إصلاح القطاع العام قد أثارت أسئلة أكثر من إجابات.
في ظلِّ هذه الخلفية، نَجِدُ تبايُنًا كبيرًا في الآراء بين الاقتصاديين المحترفين. على سبيل المثال، يرى البعض أنَّ ذوبان الجليد الأخير في التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين يُمثّلُ تحوُّلًا جوهريًا في نهج إدارة دونالد ترامب (مدفوعًا بالخوف من “الرفوف الفارغة”)، بينما يراه آخرون مجرّدَ توقُّفٍ مؤقت سيتبعه المزيد من الصعوبات.
وينطبقُ الأمرُ نفسه على العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة وأوروبا. يرى البعضُ أنَّ تهديدَ ترامب بفَرضِ رسومٍ جمركية بنسبة 50% على الواردات من الاتحاد الأوروبي هو بدايةٌ لسياسةِ “العين بالعين” التي ستُخلّفُ آثارًا سلبية مباشرة وغير مباشرة على الاقتصادَين والعالم أجمع. لكن، وخصوصًاً مع تأجيل الموعد النهائي الأوّلي، يرى آخرون أنّهُ مؤشّرٌ آخر إلى اتباع الولايات المتحدة لاستراتيجية “التصعيد من أجل التهدئة”.
ويُخيّمُ على هذه الاختلافات سؤالٌ حول ما إذا كان الاقتصادان الأميركي والعالمي يشهدان إصلاحًا جذريًا. هل تمَّ بالفعل إخراجُ معجون الأسنان من الأنبوب، أم أنَّ اضطراباتَ اليوم ستكون أشبه بتجربة “كوفيد-19″، عندما عُدنا إلى حدٍّ كبير إلى حيث بدأنا؟
خمسُ قضايا أو مسائل ستُحدّدُ مسارنا من هنا. أوّلها الرسوم الجمركية. قد توحي التطوّرات الأخيرة بأنَّ الدافعَ الرئيس لصانعي السياسات الأميركيين هو تحقيقُ نظامٍ تجاري أكثر عدالةً من خلال نهج “التصعيد من أجل التهدئة”. إذا كان الأمر كذلك، فإنَّ هذا الهدف من شأنه أن يُهَمِّشَ في نهاية المطاف بعضَ الأولويّات المُعلَنة الأخرى (المتناقضة): توليد إيرادات ضخمة وإعادة التصنيع إلى الداخل بشكلٍ كبير.
القضية الثانية هي سوق السندات. فقد أدت عودة حرّاس السندات إلى زيادةٍ ملحوظة في عوائد السندات الحكومية طويلة الأجل، حيث ارتفعت عوائد السندات اليابانية إلى مستوياتٍ تاريخية. ونظرًا للتداعيات المُزَعزِعة المُحتملة، يُمكنُ أن يكونَ ارتفاعُ عوائد السندات بمثابةِ إجراءٍ استباقي للانضباط؛ وفي المقابل، قد تُصبحُ الأسواق والاقتصادات أكثر عرضةً للاضطرابات المفاجئة في تكلفة الاقتراض للحكومات والشركات والأُسَر.
القضية الثالثة هي التضارُب بين الاعتبارات الاقتصادية واعتبارات الأمن القومي. وراء مأزق التعريفات الجمركية صراعٌ مُحتَدِمٌ بين المسؤولين الاقتصاديين “الحمائم” الذين يدعمون إبرام الصفقات، والصقور الذين يرون أنَّ المعاناة قصيرة الأجل ضرورية لتعزيز أمن أميركا، لا سيما من خلال عرقلة التنمية في الصين. فأيٌّ من الجانبَين سينتصر؟
المسألة الرابعة تتعلّقُ بردود فعل الدول الأخرى. إنَّ التقلُّباتَ السياسية الأميركية الحالية الناجمة عن هذه السياسات تدفعُ الكثيرين إلى التشكيك في التزامهم الراسخ بنظامِ تجارةٍ ومدفوعاتٍ مُتَمَركِز حول الولايات المتحدة. إلى أيِّ مدى تآكلت الثقة الأساسية، وهل يُمكن أن يُسرّع فقدان أميركا لمصداقيتها من تطويرِ أنظمةٍ بديلة؟
المسألة الأخيرة تتعلّقُ بسلوك الشركات. هل سيستغلُّ الرؤساء التنفيذيون هذه الفترة لتخزين المخزونات فحسب، أم سيسعون إلى تغييرات أوسع نطاقًا؟ هل هم واثقون من قدرتهم على تحميل المستهلكين تكاليف الرسوم الجمركية، وهل تغيّرت نظرتهم إلى النفقات الرأسمالية جذريًا؟
بمجرّد أن نُوَسِّعَ نطاقَ التحليل إلى ما بعد هذا العام، سنُواجِهُ مشكلةً أكبر. في الواقع، بدلًا من اعتبار التقلُّبات الناجمة عن الرسوم الجمركية السبب الرئيس لعدم اليقين الاقتصادي، ينبغي أن ننظُرَ إليها كمُسَرِّعٍ لتغيُّراتٍ هيكلية أكبر. لقد كان بعض الأدوات الاقتصادية التقليدية يتعرّضُ للتقويض أصلًا بسبب التحوُّلات الهيكلية في نظام التجارة الدولي، وتنويع سلاسل التوريد، وإعطاء الأولوية (في كثيرٍ من الحالات) للمرونة على حساب الكفاءة. وقد طغت اعتبارات الأمن القومي والاعتبارات المحلّية بالفعل على الاعتبارات الاقتصادية. وبدأت الثقة في المؤسّسات، الوطنية والمتعددة الأطراف، تتآكل فعلّيًّا.
يُعَدُّ هذا الإطار الشامل مهمًا، لأنه يُعزّزُ فكرةَ أنَّ الاقتصادَ العالمي يسيرُ في رحلةٍ وَعِرة نحو وجهةٍ غير مؤكّدة. قد نندفِعُ نحو الركود، والركود التضخمي، وتفتّت أنظمة التجارة والمدفوعات العالمية. أو قد نكون في المراحل الأولى من إعادةِ هيكلةٍ على غرار رونالد ريغان أو مارغريت تاتشر، والتي ستؤدي في النهاية إلى مكاسب إنتاجية أكبر، وإمكانات نموٍّ أعلى، وعجزٍ وديونٍ أقل خطورة، ونظامٍ تجاري أكثر عدالة، ونظامِ مدفوعاتٍ أكثر استقرارًا.
بالطبع، حتى المتفائلون يجب أن يُدرِكوا أن هذه فرصة متساوية (50-50) في أحسن الأحوال. في غضون ذلك، سنحتاج جميعًا إلى حشدِ المرونة اللازمة لتحمُّل حالة عدم اليقين المطوَّلة، ومعها الليونة الضرورية للاستعداد لسيناريوهاتٍ مستقبلية مختلفة تمامًا.
- محمد العريان هو رئيس كلية كوينز في جامعة كامبريدج، هو أستاذ في كلية وارتون في جامعة بنسلفانيا، ومؤلف كتاب “اللعبة الوحيدة في المدينة: البنوك المركزية وعدم الاستقرار وتجنب الانهيار التالي” (دار نشر راندوم هاوس، 2016)، والمؤلف المشارك (مع غوردون براون ومايكل سبنس وريد ليدو) لكتاب “الأزمة الدائمة: خطة لإصلاح عالم متصدّع” (دار نشر سايمون وشوستر، 2023).