لا وَطَنَ يُبنى بلا مُساءَلة… ولا مُساءَلةً بلا صحافةٍ حُرَّة
كابي طبراني*
يَدخُلُ العالمُ العربي اليوم مرحلةً جديدة وأكثر وضوحًا في إِحكامِ السيطرة على السَردِيَّات العامة؛ مرحلةٌ تَصنَعُها قوانينُ الجرائم الإلكترونية المُستَحدَثة، وتَوَسُّعُ الرقابة الرقمية، وتقلّصُ المساحات التي كانت الصحافة المستقلّة تُشغِلُها ذاتَ يوم. يحدثُ ذلك فيما يَنشَغِلُ العالم، من الولايات المتحدة إلى أوروبا، بأسئلةٍ غير مسبوقةِ الحِدّة: حدودُ التضليل، تراجُعُ الديموقراطية، واحتمالُ أن تسقطَ الصحافة في اختبارٍ كانت تظنُّ أنها تجتازه بسهولة. وفي منطقتنا، حيثُ لم تَكُن حرّيةُ التعبير يومًا حقًّا مضمونًا بالكامل، يتسلّلُ هذا التحوّلُ العالمي إلى أوضاعٍ محلّية أكثر هشاشة، ليطرح سؤالًا ملحًّا: ماذا يُمكنُ للصحافة أن تفعلَ الآن، ومَن سيَقِفُ إلى جانبها إذا مرّت هذه اللحظة بلا مُساءلة؟
قصّةُ حُرِّية الصحافة في العالم العربي ليست ملحمةَ انتصار، بل حكايةٌ يوميةٌ هادئة في ظاهرها، قاسية في حقيقتها. حكايةُ صحافيين يُحاولون المُناوَرة بين الخوفِ والواجب، وجمهورٍ يزدادُ ابتعادًا عن المجال العام، وسُلطاتٍ تُجيدُ إِحكامَ قبضتها تحتَ شعاراتِ حمايةِ المجتمع أو صَونِ الاستقرار. ورُغمَ شجاعةِ كثيرين، فإنَّ المشهدَ العام يبقى محكومًا بتناقُضٍ حاد: مواطنون يعتقدون أنَّ حُرِّيةَ التعبير مكفولة، مُؤسّساتٌ تؤكّدُ أنها ضامنةٌ لها، وواقعٌ صلبٌ يُثبِتُ أنَّ المساحةَ المتروكة أضيقُ بكثيرٍ مما يُعلَن.
تُظهِرُ استطلاعاتُ الرأي التي أجراها “الباروميتر العربي” في بعض الدول العربية، من الكويت إلى الأردن وتونس، أنَّ غالبيةَ الناس تعتقدُ أنَّ حُرِّيةَ الصحافة موجودةٌ “إلى حدٍّ كبير أو مُتَوسِّط”. لكن هذه القناعة تبدو غالبًا انعكاسًا لابتعادِ الناس عن اختبارِ الحدود، أكثر من كونها وَصفًا دقيقًا للواقع. فمَن يُحاوِلُ الوصولَ إلى معلومةٍ مُحرِجة، أو نَشرَ رأيٍ خارج النسق الرسمي، سيكتشفُ سريعًا أنَّ هذا الهامشَ ليس سوى واجهةٍ قابلةٍ للانهيار عندَ أوَّلِ احتكاكٍ حقيقي مع السلطة.
الصحافيون يعرفون ذلك جيدًا. فالقيودُ ليست نظرية، بل حيّة في القوانين المطَّاطة التي تُجَرِّمُ النقد، وفي مُمارساتِ المؤسّسات الرقابية، وفي اقتصادٍ إعلامي لا يسمحُ بالاستقلال الفعلي. ففي الأردن مثلًا، يعترفُ مُعظمُ الصحافيين بمُمارسةِ الرقابة الذاتية خوفًا على لقمة العيش أو من مُساءلةٍ قانونية مفاجئة. وفي أماكن أخرى، تتحوَّلُ الإدارة المالية للمؤسّسات الإعلامية إلى وسيلةِ ضغطٍ فعّالة، تُستَخدَمُ لكَبحِ أيِّ صوتٍ يقتربُ من الخطوط الحمر.
وربما يُشَكِّلُ لبنان المثالَ الأكثر تعقيدًا ودلالةً على مُفارقات المشهد العربي. فالدولةُ، التي لطالما وُصِفَت بأنها الأكثر انفتاحًا إعلاميًا في المنطقة، تَعيشُ اليوم أزمةَ مُتَعددة المستويات: أزمةٌ سياسية يتوزّعُ فيها الإعلام على خارطةِ الولاءات الحزبية والطائفية، وأزمةٌ اقتصادية خانقة جعلت الصحافيين رهائنَ رواتب مُتآكلة ومؤسّساتٍ عاجزة. وبين الخلافاتِ السياسيّة والتدخُّلاتِ الأمنية وتفاقُمِ الانهيارِ المالي، تحوَّلت الساحة الإعلامية اللبنانية إلى مرآةٍ كاملة لأزماتها الوطنية. ما زالَ لبنان يحتفظُ بهامشٍ نسبي للتعبير، لكنه هامشٌ يَضيقُ يومًا بعد يوم تحت وطأةِ الاستقطاب، والتهديدات المباشرة وغير المباشرة، وضغطِ الشارع الذي باتَ ينظرُ إلى الصحافة بعَينِ الشك، بعدما تحوَّلَ بعضُ المنابر الإعلامية إلى أدواتِ صراعٍ لا أدوات مُساءلة. وهي مُفارقةٌ لافتة في بلدٍ كان يُعَدُّ يومًا مُختَبرًا للحرّيات في العالم العربي.
في المقابل، لا تختلفُ صورةُ الملكية الإعلامية في بقية المنطقة كثيرًا؛ فالإعلامُ الحكومي يُهَيمِنُ على الفضاء العام، بينما ترتبطُ مُلكِيّة الإعلام الخاص في معظم الأحيان بنفوذٍ سياسي أو اقتصادي مباشر. أما الإعلامُ غير الربحي أو المُجتمعي، والذي يُفتَرَضُ أن يُشكّلَ مساحةً للتحرُّرِ من هذه الضغوط، فيجدُ نفسه مُحاصَرًا بالتصاريح والتضييق ونقصِ التمويل.
القوانين المُستَجِدّة، وخصوصًا قوانين الجرائم الإلكترونية، أصبحت السلاحَ الأكثر فعالية ضد الصحافة المستقلّة. ففي بلدانٍ عدة، تُفتَحُ ملفّاتٌ ومُحاكماتٌ بسببِ منشورٍ أو تَعليقٍ أو تحقيقٍ يكشفُ فسادًا أو يُوَجِّهُ نقدًا. ومع ضعفِ استقلالِ القضاء، يَجِدُ الصحافي نفسه بلا حماية حقيقية.
منذُ انحسار موجة “الربيع العربي”، استعادت الحكوماتُ أدواتها التقليدية للسيطرة على المجال العام، بل أعادت هندستها وتطويرها بما يتناسب مع عصر المنصّات الرقمية. فمصر سجنت أعدادًا كبيرة من الصحافيين. ودول الخليج رفعت مستوى الرقابة الرقمية إلى مستوياتٍ غير مسبوقة. وفي دولِ النزاع مثل سوريا واليمن وليبيا، أصبح العملُ الصحافي مُغامرةً قد تنتهي بالاختفاء أو القتل. هكذا تتشكّلُ خارطةٌ عربية تكاد تخلو من بيئةٍ حقيقية لحُرية الإعلام.
لكنَّ القصّةَ ليست سوداءَ بالكامل. فهناكَ دينامياتٌ جديدة تمنح الصحافة قدرًا من القدرة على الصمود. منصّاتٌ رقمية مستقلة تظهر في أكثر من بلد، تعتمدُ على تمويلٍ خارجي أو جهودٍ جماعية صغيرة، لكنها قادرةٌ على إنتاجِ صحافةٍ رصينة. والصحافيون الشباب، خصوصًا في لبنان وتونس والأردن، يستخدمون الأدوات الرقمية بمرونة تجعلُ السيطرةَ الكاملة عليهم شبه مستحيلة. ورُغمَ كلِّ القيود، لا يزالُ بعضُ التحقيقات الاستقصائية العربية يُحدِثُ أثرًا حقيقيًا، ويُجبِرُ الحكومات على الردِّ أو التراجُع ولو جُزئيًا.
مع ذلك، يبقى الطريقُ طويلًا. التكنولوجيا تَمنَحُ الصحافيين أدواتٍ جديدة، لكنها تَمنحُ الحكومات أيضًا قدراتٍ أوسع للرقابة. الضغطُ الدولي يُساعِدُ، لكنه يتراجع سريعًا أمام المصالح السياسية. ومن دون إصلاحاتٍ أعمق—قضاءٌ مُستقل، مؤسّساتُ مُساءَلة، ونقاباتٌ مهنية حقيقية—ستظلُّ الصحافة في المنطقة قادرةً على الإضاءة، لكن عاجزة عن التغيير.
ورُغمَ هذا الواقع، يُواصِلُ الصحافيون العمل، لأنهم يؤمنون بأنَّ الصمتَ أخطَرُ من الخطرِ نفسه، وبأنَّ الناسَ يستحقّون الحقائق، لا النُسَخ المُعَدّة سلفًا. شجاعتهم لافتة ومُدهِشة، لكنها ليست حلًّا سحريًا. فالشجاعةُ تُضيء الطريق، لكنها لا تُسقِطُ الجدران. إسقاطُها يحتاجُ إلى مُجتَمَعٍ يُقرِّرُ أنَّ الصمتَ لم يَعُد مقبولًا، وأنَّ الحرية ليست شعارًا، بل شرطًا للحياة العامة.
وحين يحدثُ ذلك –فقط حين يَحدُث– يُمكِنُ للصحافة العربية، من بيروت إلى الرباط، ومن عمّان إلى تونس، أن تتحوَّلَ من مهنةٍ محفوفةٍ بالمخاطر إلى مُؤسّسةٍ قادرةٍ على صناعةِ التغيير لا الاكتفاء بوصفه. فحرية الصحافة ليست رفاهية، بل شرطًا لوجودِ مجتمعٍ يَعرِفُ نفسه ويملكُ القدرةَ على تقرير مستقبله.
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على: @GabyTabarani



