نهايةُ أردوغان؟ كَيفَ هَندَسَ الزعيمُ التركي تَدميرَ نفسِه
يبدو أن رجب طيّب أردوغان الذي لا يُقهَر قد نَفَدَ مجال المناورة لديه. باختياره الوقت المناسب وطريقة خروجه، يمكنه المساعدة على تسهيل الانتقال إلى زعيمٍ جديد وضمان أن تكون تركيا في سلام مع نفسها. لا يزال بإمكانه تشكيل إرثه. ومع ذلك، تشيرُ شخصيته إلى أنه من غير المرجّح أن يشرعَ في مثلِ هذا التحوّل.

هنري باركي*
يُكافِحُ رجب طيب أردوغان، الزعيم الشعبوي السلطوي في تركيا، الآن من أجل بقائه السياسي. مأزقه هو من صنعه بالكامل: في الساعات الأولى من صباح 19 آذار (مارس) الفائت، أمرَ الرئيس التركي بمُداهَمةِ منزل أكرم إمام أوغلو، عمدة إسطنبول المشهور، ونَشرِ نحو 200 شرطي. أُلقي القبض على إمام أوغلو، منافسه السياسي الذي كان يُنظَرُ إليه على نطاقٍ واسع كمرشّحٍ رئاسي مستقبلي، ووُجِّهَت إليه تُهَمٌ مشكوكٌ فيها للغاية، بما في ذلك اتهاماتٌ لا أساسَ لها بالفساد والإرهاب. ورُغمَ حظرِ التجمُّعات العامة، أشعل الاعتقال أكبر مظاهراتٍ مُناهضةٍ للحكومة في تركيا منذ أكثر من عقد، والتي انتشرت في معظم محافظات البلاد. وقد شارك في بعض الاحتجاجات في اسطنبول أكثر من مليون شخص، كثيرٌ منهم من الشباب.
قد يكون إمام أوغلو، صاحب الشخصية الكاريزمية والكفاءة، مُنافسًا ذا تهديدٍ فريد. لكن في الحقيقة، لم يُحدِث قرارُ أردوغان باعتقال إمام أوغلو هذه الأزمة، بل عَكَسَ ضُعفًا متزايدًا. كان أردوغان يُواجه أصلًا إرهاقًا شعبيًا متزايدًا من رئاسته. وقد أضعفت غطرسته وأسلوبه القيادي المُسيطِر الحماسَ الشعبي الذي كان سائدًا في السابق لحكمه، ما جعله أكثر يأسًا من أيِّ وقتٍ مضى لكبح جماح استياءٍ لا يُقهَر. وقد أظهر استطلاعُ رأي أجراه “مركز بيو للأبحاث” في آذار (مارس) 2024 أنَّ 55% من البالغين الأتراك لديهم رأيٌ سلبي تجاه أردوغان، وأنَّ حزبه خسر الانتخابات البلدية لعام 2024.
إنَّ عُمقَ الاحتجاجات الأخيرة ونطاقها ومدّتها أمرٌ جديد: فقد دمج المتظاهرون احتجاجاتهم في الشوارع مع مقاطعةٍ مُنَظَّمةٍ للشركات المؤيّدة والداعمة لأردوغان، والنشاط الإلكتروني، والعصيان المدني. كما جلبَ اعتقالُ إمام أوغلو حالةً من عدمِ الاستقرار إلى الاقتصاد التركي المُتعثّر أصلًا. ردَّ أردوغان بمضاعفة جهوده واعتقال المئات من شركاء إمام أوغلو، بمَن فيهم زملاء وأصدقاء وشركاء أعمال سابقون وأعضاء في مجتمع الأعمال التركي وأفراد من عائلته. لكنَّ هذه الإجراءات القمعية تبدو الآن أقل شبهًا بأفعالِ مُستبدٍّ قوي، وأكثر شَبَهًا بضرباتِ رجلٍ مُهَدَّدٍ وغير آمنٍ ومُعرَّض للخطر. لقد اكتسبت المعارضة التركية المزيد من الجرأة: ففي ظلِّ قيادةٍ جديدة وأكثر ديناميكية لأول مرة منذ سنوات، أخذت زمام المبادرة بدلًا من التنازُل عنها للحكومة، ونظّمت مظاهرات في معاقل الحزب الحاكم.
ورُغمَ أنَّ إمام أوغلو لا يزال في السجن، إلّا أنَّ أردوغان هو المُحاصَر. إنَّ أهمَّ شيءٍ ضروري وملحٍّ لأردوغان هو تمديد فترة ولايته الرئاسية، حيث يقتصر دستوريًا على فترتين في المنصب، وتنتهي ولايته في العام 2028. لكن تراجع شعبيته المتزايد قد قلّلَ من قدرته على تغيير الدستور أو فرض انتخابات مبكرة. بعد أربع سنوات من الآن، من شبه المؤكد أنَّ أردوغان لن يكونَ رئيسًا لتركيا. إنَّ حقيقةَ أنَّ العديد من المواطنين الأتراك الشباب تجرَّؤوا على التظاهر ضده تعكسُ التدهور الذي لا رجعة فيه في شعبيته. بصفته القائد الوحيد الذي عرفه هؤلاء الشباب على الإطلاق، بدا ذات يوم أبديًا، وحقيقةً من حقائق الحياة. ولكن الأمر اليوم لم يعد كذلك: فقد حكمت عليه أخطاؤه بالفشل. تُشيرُ استطلاعات الرأي إلى أنه إذا أُجرِيَت انتخاباتٌ في تركيا غدًا، فلن يفوز. وبغضِّ النظر عن التطوّرات المستقبلية، فمن المرجح أن يتمَّ تحديدُ إرث أردوغان من خلال قراره بسجن خصمه الرئيس ــ وسوف يكون بمثابة مثالٍ على كيف يمكن حتى لأكثر الزعماء الاستبداديين صرامة أن يتجاوزوا حدودهم.
تضييقُ الخناق
إمام أوغلو ليس أول منافس سياسي بارز يسجنهُ أردوغان. صلاح الدين دميرطاش، زعيم المعارضة الكردية المعروف، مسجون منذ العام 2016 بعد أن حُكِمَ عليه بالسجن 42 عامًا بتهمة “تقويض وحدة الدولة”، بالإضافة إلى ثلاث سنوات إضافية بتهمة “إهانة أردوغان”. كانت “جريمته” الحقيقية الوحيدة هي الدعم القوي الذي يتمتع به بين الأكراد، مما شكّل تهديدًا لطموحات أردوغان في إعادة تشكيل المشهد السياسي التركي.
ولكن حتى فترة وصول إمام أوغلو إلى السلطة، كان أردوغان نجحَ في تحويل نوبات المعارضة العامة أو ظهور منافسين إلى ذرائع لتعزيز سلطته. بعد توليه السلطة في العام 2003، وَعَدَ أردوغان بدَمَقرَطةِ بلدٍ يتمتع جيشه القوي بتاريخ طويل من التدخّل في السياسة. لكن بمجرّد تهميش الجيش التركي، لم يبقَ أيُّ عائقٍ يُذكَر في طريق قدرة أردوغان على ترسيخ سلطته. تراجعت رؤيته الإصلاحية تدريجًا أمام بُنيةٍ استبدادية أشرف فيها أردوغان على كل جانب من جوانب الحكومة والمجتمع. مثل العديد من القادة الاستبداديين، استخدم أردوغان عدم القدرة على التنبؤ لضمان قدرته على التلاعب بالمؤسّسات والدولة. لقد دعم انتخابات محلية حرة نسبيًا، وتقبّل نتائجها عندما كانت مناسبة، وتجاهلها عندما لم تكن كذلك.
في العام 2013، اعترض متظاهرون على خطةٍ حكومية لهدم حديقة جيزي في اسطنبول، إحدى آخر المساحات الخضراء في المدينة. وخوفًا من نشوء حركة احتجاجية على غرار “الربيع العربي” في تركيا، شنّ أردوغان حملة قمع. واستخدم ادعاءات (غالبًا ما كانت كاذبة) بالمشاركة في الاحتجاجات لاستهداف معارضين حقيقيين ووهميين، مثل زعيم المجتمع المدني عثمان كافالا، الذي حُكِمَ عليه بالسجن المؤبد لتنظيمه وتمويله المظاهرات مع متآمرين آخرين. بعد أكثر من عقد من الزمان، لا يزال أردوغان يستخدم احتجاجات حديقة جيزي كسلاح لملاحقة المتهوّرين: ففي كانون الثاني (يناير) الفائت، على سبيل المثال، أُلقي القبض على صاحبة وكالة المواهب، عائشة باريم، ووُجِّهت إليها تهمة التخطيط للإطاحة بالحكومة أثناء الاحتجاج، على الرُغم من اعتقاد الكثيرين أنَّ السلطات كانت تستهدفها لأسبابٍ غير ذات صلة.
ثم في العام 2016، أتاحَ الانقلاب الفاشل الذي شنته فصيلة داخل الجيش التركي لأردوغان فرصةَ فرضِ حالة الطوارئ، التي منحته سلطةَ تَجاوُزِ البرلمان والمحاكم وتطهير الحكومة من أكثر من 125 ألف موظف مدني وضابط عسكري ومعلم وقاضٍ ومدّعٍ عام يُشتبه في عدم ولائهم. طُرِدَ الكثيرون في غضونِ أسبوع من محاولة الانقلاب، مما يشير إلى أنَّ أردوغان كانت لديه قوائم أعدّها مسبقًا بالأعداء. مستغلًا موجة الشعبية التي أعقبت الانقلاب الفاشل، أجرى أردوغان، في العام 2017، استفتاءً دستوريًا. لقد أدى هذا إلى تحويل النظام البرلماني في تركيا إلى نظامٍ رئاسي مركزي، ما أدى فعليًا إلى القضاء على الفصل بين السلطات وسيادة القانون وتحويل البرلمان إلى مجرّد ختمٍ مطاطي.
أقالت حكومة أردوغان واستبدلت العديد من رؤساء البلديات المنتخبين، لا سيما في المدن ذات الغالبية الكردية. وبالمثل، تجاهل القرارات الصادرة عن المحكمة الدستورية، المؤسسة الحكومية التركية الوحيدة التي تحتفظ ببعض الاستقلال عنه. ورُغمَ أنه يروّج لصورة السلطة المطلقة والعصمة من الخطَإِ، إلّا أنَّ أردوغان يتميّزُ بحساسيةٍ استثنائية. فالسجون التركية تعجُّ الآن بالسياسيين والصحافيين والأكاديميين والمواطنين الذين فُسِّرت أقوالهم أو أفعالهم على أنها مسيئة أو معارِضة. وغالبًا ما يقبع الأفراد في الاحتجاز لأشهر، في انتظار المحاكمة بتُهَمٍ مزعومة تافهة مثل منشور على وسائل التواصل الاجتماعي من سنواتٍ مضت اعتُبر مُهينًا للرئيس. وبين العامين 2014 و2020 وحدهما، حققت حكومة أردوغان مع ما يقرب من 160 ألف تركي بتهمة إهانة الرئيس، وحاكمت 35 ألفًا منهم.
إساءة إلى جرح
لكنَّ نجاحَ أردوغان الواضح في ترسيخ سلطته وتقويضِ المعارضة أخفى نقاط ضعفه. لم يكن اعتقال إمام أوغلو المؤشر الأول إلى تخبّط الإدارة. ففي وقت سابق من هذا العام، انتقد كلٌّ من الرئيس التنفيذي ورئيس مجلس إدارة جمعية الصناعة والأعمال التركية القوية الدولة التركية لمصادرتها شركات وأصول الأشخاص الذين تُوَجَّه إليهم اتهامات جنائية قبل إدانتهم. وكان ردُّ فعل أردوغان سريعًا: بدأ تحقيقات جنائية ضد قادة الجمعية بتهمة، على حد تعبيره، “التعليق على أمرٍ لم يكونوا على درايةٍ به جيدًا، وبالتالي نشر معلومات مضلّلة”.
ولكن بحلول الوقت الذي أُلقي القبض على إمام أوغلو في آذار (مارس)، كان عمدة إسطنبول أصبح يُشكّلُ تهديدًا واضحًا وربما وجوديًا. وعلى غرار مسار أردوغان، برز إمام أوغلو كرئيس بلدية كفؤ وشعبي لأكبر مدينة في تركيا، وفاز في الانتخابات في العام 2019 على الرُغم من محاولة أردوغان إلغاء فوزه بإلغاء التصويت وإعادة إجرائه. بتركيزه على تقديم الخدمات بكفاءة، واستقطاب الناخبين بأسلوبٍ ودود، وترويجه لنفسه كبديلٍ ديموقراطي لنهج أردوغان المُنعزِل والاستبدادي، نجح إمام أوغلو في بناء صورة وطنية جذابة، وأصبح أول مرشح سياسي منذ سنوات يُهدد بشكلٍ جدي قبضة أردوغان على السلطة. تحدّى سلطوية أردوغان علنًا، وهي رسالة لاقت صدى لدى العديد من المواطنين الأتراك. وبصفته رئيس بلدية ذي سجل حافل، برز في حزب معارض كافح طويلًا لاستقطاب مرشحين مُلهَمين أو تطبيق استراتيجيات سياسية ناجحة.
في العام 2022، قُدِّم إمام أوغلو للمحاكمة بتهمة إهانة أعضاء المجلس الانتخابي في البلاد، وحُكم عليه بالسجن، ومُنع من المشاركة في السياسة. واستُكمِلت هذه الأفعال بحملات تشهير منظّمة لا هوادة فيها، دبّرتها وسائل إعلام موالية للحكومة. ولكن على الرُغم من كل جهود أردوغان، ازداد نفوذ إمام أوغلو. وقد استأنف الأخير إدانته، ما أدى إلى تعليقه عن العمل في انتظار نتيجة الالتماس.
وهكذا بدأ أردوغان استخدام كل ما لديه من قوة. قبل يوم واحد من اعتقال إمام أوغلو، ألغت جامعة إسطنبول، في ممارسةٍ متهوّرة لسلطة الدولة، درجة البكالوريوس -التي حصل عليها قبل ٣١ عامًا- لسببٍ شكلي. وبما أنَّ الدستور التركي ينصُّ على أن يكونَ المرشحون للرئاسة حاصلين على شهادة جامعية، فإنَّ هذا الإبطال يُعدّ بمثابة ضمانة ضد أي ترشّح مستقبلي لإمام أوغلو. سبق اعتقال إمام أوغلو الانتخابات التمهيدية الرئاسية المقررة لحزبه بأربعة أيام. لا تُجري الأحزاب السياسية التركية عادةً انتخابات تمهيدية، وكان إمام أوغلو المرشح الوحيد في اقتراع حزبه. أدرك أردوغان، غير المعتاد على مشاركة الأضواء، أنَّ اختيار إمام أوغلو سيرفعه إلى منصبٍ متساوٍ حتى الانتخابات العامة المقبلة، والتي قد لا تُجرى قبل العام 2028.
يريد أردوغان تجاوز هذه الأزمة بالاعتماد على القوة الغاشمة، كما فعل خلال احتجاجات حديقة جيزي في العام 2013. لكن تجاوزاته وَحّدت المعارضة التركية وعزّزتها، بدون قصد. إنَّ وَصفَ الاحتجاجات والمقاطعات الاقتصادية بالإرهاب أو الخيانة أو حظر المسيرات لم يعد يُجدي نفعًا اليوم، لأنَّ المعارضة لديها الآن قائد جذاب هو إمام أوغلو، بالإضافة إلى فكرةٍ موحَّدة: أنَّ تركيا تستحقُّ فرصةً لبناء ديموقراطية. بعد سنواتٍ من النتائج المُخيّبة للآمال، بدأت المعارضة إعادة بناء نفسها، وأصبحت أكثر تنظيمًا وابتكارًا تحت قيادة جديدة: فمعَ احتدام الاحتجاجات على مستوى البلاد بعد اعتقال إمام أوغلو، دعا حزب المعارضة جميع المواطنين الأتراك للمشاركة في الانتخابات التمهيدية الرئاسية في 23 آذار (مارس) كتعبيرٍ عن دعمهم له. في تجسيدٍ قاطعٍ لسخطهم، انتظر أكثر من 15 مليون تركي في طوابير لساعاتٍ للإدلاء بأصواتهم لمرشحٍ كان يقبع في السجن.
لقد جعلت اضطهادات أردوغان من إمام أوغلو زعيمًا بلا منازع للمعارضة. ومن داخل السجن، حافظ إمام أوغلو على تواصله مع الجمهور التركي الأوسع، ما أعطى انطباعًا بأنَّ أردوغان فَقَدَ السيطرة. في استطلاعٍ حديثٍ أجرته شركة “كوندا” التركية لاستطلاعات الرأي، وافقَ 67% من المشاركين الأتراك على أنَّ إعادةَ انتخاب أردوغان ستكون “سيئة” للبلاد، مقارنةً بـ 49% في استطلاعٍ أُجري في العام 2023. ووجد الاستطلاع نفسه أنَّ أكثرَ من 60% من المواطنين الأتراك لا يُصدّقون الاتهامات المُوَجَّهة إلى إمام أوغلو. كلما طالت مدة سجن إمام أوغلو، زادت مكانته. إنها مسألة وقتٍ فقط قبل أن تُعقَدَ مقارناتٌ بينه وبين شخصياتٍ مثل رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم أو الكاتب المسرحي التشيكي فاتسلاف هافيل.
مأزقٌ مُزدوج
يؤكّدُ سلوكُ أردوغان الأخير تحوُّلَ تركيا إلى دولةٍ استبدادية نموذجية، حيث تُستخدَمُ الانتخابات لتعزيز قبضة الرئيس الحالي على السلطة. لكن يبدو أيضًا أنه فَقَدَ ثقته بنفسه كما دَعمَ قاعدته الراسخ. ويكشف مقدار الوقت والجهد الذي بذله أردوغان في الدفاع عن القضية الجنائية المرفوعة ضد إمام أوغلو وتبريرها عن إحباطه وقلقه. غالبًا ما كانت اعتقالاته السابقة بدوافع سياسية مدفوعة برغبةٍ في الانتقام، لكن اعتقالَ إمام أوغلو ينبع بشكلٍ أوضح من الخوف والقلق. ومن المفارقات أنَّ اضطهاد أردوغان لإمام أوغلو يوازي تجربته الشخصية: فعندما كان رئيسًا لبلدية إسطنبول، سُجِنَ أردوغان ظُلمًا أيضًا – وهو حدثٌ عزّزَ مكانته الوطنية وضمن مستقبله السياسي.
لقد أحدث سجن رئيس بلدية إسطنبول، واعتقال مسؤولين آخرين، ومصادرة أصول شركات، موجات صدمة في الأسواق المالية التركية، مما أدى إلى تآكل الثقة في إجراءات الاستقرار التي مضى عليها عامان، والهادفة إلى تحسين أرصدة النقد الأجنبي وخفض التضخّم. يعتمد نجاح خطة الاستقرار على جذب الاستثمار الأجنبي، لكن تحرّكات أردوغان المُتزامِنة لمزيدٍ من تقويض سيادة القانون تُعيقُ مثل هذا الاستثمار. بعد يومين من اعتقال إمام أوغلو، وصلت الليرة التركية إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق، واضطرَّ البنك المركزي إلى إنفاق 46 مليار دولار من الاحتياطيات لمنع المزيد من الانخفاض في قيمتها. كان لا بُدَّ من نشر قواطع الدائرة بشكل متكرر لمنع انهيار سوق الأسهم التركية.
قد يعتبرُ أردوغان نفسه محظوظًا بوصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. فعلى عكس الرئيس جو بايدن، الذي تجاهله، أشاد ترامب به بشدة، وأشار إلى نهجٍ جديد في السياسة الأميركية؛ في حين التزمت إدارة ترامب الصمت حيال اعتقال إمام أوغلو. لكن علاقة أردوغان الوثيقة بترامب قد تكون لها عواقب وخيمة: إذ دأب أردوغان على تعزيز قاعدة مؤيّديه باتهامِ الولايات المتحدة بأنها عدو لتركيا، واتهام سياسته الأميركية بالمسؤولية عن عيوبه. أما الآن، فلن يعود بإمكانه إلقاء اللوم على الأميركيين.
قد يقترنُ حدثٌ مُرَحَّبٌ به في تركيا -وهو بدء عملية سلام محتملة مع الأقلية الكردية في البلاد- بأزمة إمام أوغلو لكسر قبضة أردوغان على السلطة. في تشرين الأول (أكتوبر) 2024، وفي تحوّلٍ مذهل، بدأ شريك أردوغان في الائتلاف -القومي المتطرّف الشهير دولت بهجلي- حوارًا مع الحزب الذي يمثل العديد من المناطق ذات الغالبية الكردية في تركيا في البرلمان، ومع عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون، وهي جماعة مسلحة صنفتها تركيا منظمة إرهابية. وفي أيار (مايو)، تُوِّجَ هذا الحوار بتخلّي حزب العمال الكردستاني رسميًا عن كفاحه المسلح الذي دام 40 عامًا وتفكيك نفسه. وحتى لو أعطى أردوغان الضوء الأخضر لبهجلي لإجراء محادثات مع الأكراد، فإنه لم يَبدُ متحمّسًا للعملية أو نتائجها؛ فقد ركز خطابه حول الانفتاح بشكلٍ مُفرِط على القضايا الأمنية، وحافظ على نبرة عقابية، وتجنّبَ مناقشة خريطة الطريق.
بعد إدراكهم أنَّ الكفاحَ المسلح لحزب العمال الكردستاني قد بلغ منتهاه، لخّصَ القادة الأكراد مطالبهم في مطلبٍ استراتيجي واحد: الشروع في عملية التحوّل الديموقراطي. أدركوا أنَّ دولة ومجتمعًا ديمقراطِيَين يحكمهما القانون مع فصلٍ حقيقي للسلطات سيكونان أكثر قدرة على التعامل مع تحديات تركيا، بما في ذلك كيفية منحهم حقوقهم اللغوية. لذا يواجه أردوغان معضلة: فالإصلاحات والتنازلات اللازمة لبدء عملية التحوُّل الديموقراطي هذه ستجبره على تفكيك هيكل الدولة الاستبدادي الذي بناه بدقة متناهية. وتشير جهوده الدؤوبة لإبقاء إمام أوغلو وحلفائه في السجن إلى أنَّ هذا ليس ما يريده. ولكن إذا أحبط عملية السلام، فإنه يخاطر بتنفير بهجلي، الذي يحتاج أردوغان إلى حزبه في ائتلافه للحفاظ على الغالبية الانتخابية، والذي، في سن السابعة والسبعين، حريص على ترسيخ إرثه السياسي باتفاقية سلام تاريخية.
للبقاء في السلطة، يحتاج أردوغان إما إلى تعديل الدستور التركي، أو، وهو السيناريو الأكثر ترجيحًا، إقناع البرلمان بالدعوة إلى انتخاباتٍ مبكرة، مما يسمح له بالترشح مرة أخرى. ولكن حتى لو نجح في تأمين انتخابات مبكرة، فإنَّ التحوُّلَ الملموس في المشاعر العامة يعني أنَّ الفوز في صناديق الاقتراع سيكون بعيدًا من أن يكون مضمونًا.
مع تزايد عزلة أردوغان الذي يُحيط به المتملقون، من المرجح أن يتمسّك الرئيس التركي بأسلوبه في العمل: الرد على أيِّ تحدٍ بممارسة السلطة العقابية للدولة بشكلٍ انعكاسي. ولكنَّ هناك حدًّا لكمية الحظر والاعتقالات والإقالة التعسُّفية للمسؤولين المحليين المنتخبين التي يمكنه ملاحقتها قبل أن تتحول تركيا إلى دولة الحزب الواحد.
والحقيقة هي أنَّ أردوغان الذي لا يُقهَر قد نَفَدَ مجالُ المناورة لديه. باختياره الوقت المناسب وطريقة خروجه، يمكنه المساعدة على تسهيل الانتقال إلى زعيمٍ جديد وضمان أن تكون تركيا في سلامٍ مع نفسها. لا يزال بإمكانه تشكيل إرثه. ومع ذلك، تشيرُ شخصيته إلى أنه من غير المرجح أن يشرَعَ في مثل هذا التحوّل. إذا تمسّك بنهجه المعتاد، فهناك خطرٌ كبير من أن ينقلبَ الشعبُ التركي عليه بشكلٍ حاسم، وأن تُذكَرَ فترة حكمه الطويلة والحافلة بالأحداث ببساطة كعهد استبداد.
- هنري باركي هو أستاذ فخري للعلاقات الدولية في جامعة ليهاي في ولاية بنسلفانيا، وزميل مساعد أول لدراسات الشرق الأوسط في مجلس العلاقات الخارجية الأميركي.
- يصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.