جوزيف كونراد وسجين القمرة
بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*
تخيّل أنك قائد سفينة، وأنك تجلس في القمرة لأول مرة في حياتك، أمامك بحر مليء بالأهوال والمخاطر، وخلفك ذكريات لا تنتهي، وسرب من البحارة الذين لا تعرفهم ولا يعرفونك. وتخيَّل أن هؤلاء لا يكنّون الولاء اللازم أو الإحترام الكافي لرجلٍ لا يعرفون عنه الكثير. ترتجف يداك وأنت تتناول فنجان القهوة في الصباح، وتذهب بك الظنون كل مذهب وأنت تحاول أن تخلد إلى النوم في المساء أو عند الظهيرة. تشعر أن العيون التي تراقبك بحذر خلف الزجاج تنتظر منك الخطأ الأول وتتربّص بك الدوائر.
يتشابه عليك الماء، وتضيق ذرعاً بالمكان، فتخرج ليلاً رغم برودة الطقس لتفض بكارة زنزانتك الضيّقة وتُمارس حقّك الوجودي في تنسّم عبير السحر. تفعل كل شيء بنفسك لأنك لا تثق بأحد، وحين توجِّه إلى أحدهم أمراً، تتحشرج الكلمات في حلقك وكأنك في حضرة الموت. تشعر أنهم يدركون ضعفك وقلة خبرتك، وتزداد إرتباكاً كلّما تلعثمت أمام أحدهم، فتقرأ في عينيه شماتة الأعداء. تتمنّى لو تستطيع أن تتسامر معهم فوق ألواح السفينة حديثة الطلاء، لكنهم لا يمنحونك أي طرف من حديث لا ينقطع بينهم.
وذات هزيع، تقف وحدك لتمارس الحراسة كأحط بحار تحت إمرتك، فتبحر ببصرك فوق الموج، وتذهب للبعيد حيث دفء البيت والمشاعر، فتتذكر زوجتك وعيني طفلك اللتين لم تخاصمهما البراءة بعد، وفجأة تطل كرة سوداء من الخليج تحت قدميك، وتمتد ذراعان لتتشبّثا بمقدمة سفينتك، وفي وجهٍ مُبلّل بالخوف، تقرأ نظرات الإستعطاف واضحة رغم حلكة الليل. تمد يدك المرتجفة لتُخرج صيد الليل من لجّة الصقيع، ويدخل الغريب عارياً كما ولدته أمه إلى قمرتك ليحكي لك رواية لست مضطراً لتصديقها.
في قصته “الشريك السري”، يكمل جوزيف كونراد قصة “ليجات” مساعد القبطان الذي فرّ من السفينة “سيفورا” هرباً بأنفاسه المتلاحقة بحثاً عن أي مركب يحمله إلى أي شاطئ. ولحسن حظ الرجل، يجد مركباً بالجوار فيتسلّل إليه لواذاً، ويدخل إلى غرفة القبطان (الذي لم يذكر اسمه لغرض في نفس كونراد) عارياً من كل شيء. الغريب أن القبطان الذي لطالما تردّد في اتخاذ كل قرارات القيادة، لم يتردد لحظة في مساعدة طريد الليل. وبدلاً من الإستعانة بطاقم السفينة في تقييده وحبسه، يمد القبطان يده بثياب نظيفة “لليجات” ليواري سوأته.
“ليجات” الذي فرّ من قيد قبطان “سيفورا” يحظى برفقة قبطان لا يعرفه وينام في قمرته. قطعاً، لم يعرف قبطاننا المغامر سبباً لمدّ يده لرجل لا يعرفه، لكنه أحسّ حين نظر في عينيه لأول مرة أنه ينظر في المرآة، ويرى كل ضعفه وقلّة حيلته أمامه في صورة رجل يرتجف، خرج للتو من الخليج من دون كفالة. ورغم حراجة الموقف، وتربّص طاقم السفينة بصاحبنا، إلا أنه يقرر أن يجعل من قمرته التي يصعب أن تحتفظ في عرض البحر بخصوصيتها، ملاذاً آمناً لطريد الليل حتى قبل أن يسمع قصته.
ربما أراد الرجل أن يُبرهن لنفسه على شجاعة لطالما تشكّك بوجودها فيه، ولربما دفعه الضيق بالسفينة وأهلها إلى البحث عن صديق وإن كان قاتلاً. وربما لأنه كان مرهف الحسّ، رأى في عيني ضيفه من الإنكسار ما يستوجب شهامة غير معتادة. تشاجر “ليجات” مع بحّار رفض الإنصياع لأمره ورفض رتق خرق في أحد الأشرعة أثناء عاصفة عنيفة، وإثر دفعة غير مُتعَمّدة، سال دم الرجل حتى توقفت أنفاسه. فقرر قبطان السفينة تقييد مساعده في السلاسل حتى يصلوا إلى أقرب ميناء. لكن لحسن حظه “ليجات”، توقفت السفينة في إحدى الجزر في إنتظار قاطرة لعطب أصاب محركها. وهنا إستغل “ليجات” إنشغال طاقمه ففر هارباً. تلك كانت رواية “ليجات” التي لم يجد القبطان في نفسه حاجة لتكذيبها.
وفي إصرار غير مُبرَّر من القبطان الشاب على مساعدة “ليجات” يكذب صاحبنا ببراءة مذهلة على قبطان “سيفورا” حين يأتي باحثاً عن مساعده القاتل. وبدلاً من تنفيذ عدالة لا يؤمن صاحبنا بها، يُقرّر القبطان الإقتراب من الساحل قدر ما تسمح له الصخور حتى يتسنّى لطريد الليل الفرار. وتنتهي القصة هنا، لكن التساؤلات حول رسالة “كونراد” الذي يُتقن تفخيخ رواياته لا تهدأ.
هل أراد “كونراد” أن يرمز بالقبطان إلى الجانب العقلاني المتردد في الذات البشرية، والذي لا يكتمل بغير قرارات متهوّرة وشجاعة يُمثلها السفاح الهارب؟ أم تراه يؤيّد حقّنا كبشر في الوقوف في وجه بعض القوانين حين نراها جائرة، وفي التعاون مع الضحايا بما نستطيع من حذر لنمنع العدالة العمياء والتي يمثلها قبطان “سيفورا” من النفاذ؟ قطعاً لم يرد “كونراد” أن يجعل قصة “الشريك السري” مجرد مغامرة بحرية كما فعل في بعض رواياته، لكنه أراد منا أن نقف على سفينة ذات أسطر وحروف لنمارس فضيلة التردد بين ذاتين تتشاركان القمرة ذاتها والصراع ذاته.
• عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. تستطيعون التواصل معه على بريده الإلكتروني: Shaer129@me.com