القتل بالوراثة
بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*
“الإنسان دموي بطبعه، ولولا الحضارة والقانون لشهدنا من العنف ما لا عين رأت ولا كاميرا نقلت”، هذا خلاصة ما توصل إليه “غوز ماريا غوميز” (Guz Maria Gomez) الباحث في جامعة غرانادا بإسبانيا. فبعد بحث إستند إلى ألف وأربع وأربعين دراسة تناولت سلوك ألف وأربعة وعشرين نوعاً من الكائنات، خلص غوميز إلى أننا ننتمي إلى سلالة تُورِث العنف كما تُورِث إستقامة العمود الفقري، وتحمل في جيناتها “الهمجية” كما تحمل كريات الدم الملوّنة.
لا عزاء إذن للباحثين عن عالم يسوده السلام وتكتنفه المحبة، فنحن بحول الله نتفوَّق بحكم الوراثة في مضمار الهمجية على القرش القاتل والسعدان والليمور. فلتوفّر المنظمات الداعمة للسلام أموالها، وليهدّئ معتلو المنابر تشنجاتهم، ولتخفض الشعوب الباحثة عن الأمن من سقف طموحاتها غير المشروعة، فنحن محكومون وراثياً بالعنف، وإن سكنّا القصور وركبنا ال”رولز رويس”.
همجيون نحن، وتشهد غرانادا ويشهد غوميز، وتشهد طرقنا غير المُعبَّدة ودُورُنا المُهدَّمة، وتشهد المساجد والبيع والصلوات التي لم يعد يُذكَر فيها الرحمن إلّا قليلًا. تشهد منتدياتنا وتؤمن حواراتنا وتؤكد ألعابنا العنيفة وخلافاتنا السخيفة على صدق الدراسة.
لا أمل في غد آمن، وإن تغنّى الشعراء وتمايل المطربون، ولا ثقة إلا بالجينات التي تحكم عصبياتنا وثوراتنا وهمجيتنا. لم تقل نسبة شهداء العنف في زمن من الأزمان عن ثلاثة عشر قتيلاً من كل ألف، هكذا يؤكد غوميز. ولولا القانون والحضارة، ولولا الأديان والرسل، لتفوَّقنا على الشانشيلا، وتجاوز قتلانا نسبة المئة من كل ألف. ولولا سطوة القانون وسلطان العرف، لتحوّلت كل المدن فوق البسيطة إلى “حلب” ولأصبح كل من عليها “بشاراً”.
“مسلخٌ هي الحياة” ولكن أكثر الناس لا يعلمون، والذين ينادون بسقوط الأنظمة يريدون أن يرتد الإنسان إلى همجيته الأولى ليمارس “حقه الوراثي” في العنف ليتهارج الناس بحرية كما تتهارج الحمر في البرية. كانت الملائكة تعلم يوم النفخ في الطين أننا نحمل في بذورنا نبتة الفساد، وكانت تعلم أن القتل في طبعنا سجية والعنف جينات، فضجت،”أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟” لكن، لحكمة غابت عن الملائكة، كما تغيب اليوم علينا، نزل الإنسان الدموي القاتل ليستعمر الأرض ويخلف من كان عليها، ليهلك الحرث ويبيد النسل، رغم أن الله الخالق لا يحب الفساد.
لا تثريب على طيار يلقي بحمولته المتفجرة اليوم ليقتل في عصبية مقيتة آلاف النساء والشيوخ والرضع. ولا لوم على أصحاب الرايات السوداء والقلوب السوداء والمشاريع السوداء إن مارسوا همجيتهم الأولى فقتل قابيلهم هابيلهم، وبغى بعضهم على بعض. ولا حول لمن حال ضعفه دون بسط مخالبه وكشف أنيابه. فالبقاء في دنيا الهمجية لأصحاب الرفسة الأولى والعضة الأولى والطعنة الناجزة.
صادمٌ تقرير غوميز، لكن واقع البشر في دار خلافتهم أشدّ هولاً. وما تُنذر به خلافات قطبي الهمجية أشد وأنكى. وحتماً سيشهد العالم في السنوات المقبلة ما يجعل تقرير غوميز تاريخاً لطيفاً لبشر لطفاء. يقيناً ستفوق معدّلات العنف في ما هو آتٍ من همجية تلك التي عرفها تقرير الرجل عشرات المرات. وقريباً ستسقط ورقة الحضارة التي تستر سوآتنا، ويظهر الإنسان الهمجي عارياً من كل قانون وعرف ليمارس حقه الجيني في القتل والقتل المضاد، ولا عزاء لطيِّبي القلوب ورقيقي المشاعر.
• أديب وكاتب وإعلامي مصري