سعد الحريري: ما لَهُ وما عَلَيه (4): عَودَةٌ إلى الماضي أم بِدايَةٌ جَديدة؟

سليمان الفرزلي*

كانَ موضوعُ عودة سعد الحريري إلى لبنان وإلى قواعده، مَدارَ بَحثٍ في أوساطٍ لبنانية مُختلفة خلال الأيام الأخيرة منذ احتفال الذكرى التاسعة عشرة لاغتيال والده الشهيد رفيق الحريري. لكن القائلين بالعودة، أو المطالبين بها، أو المُتَوَقِّعين لها، لم يُعلِنوا، أو ربما لم يُفَكِّروا، بالعودة إلى ماذا. ففي أذهانِ مُعظم هؤلاء أنَّ فترةَ تعليقِ النشاط، أو فترة الاعتكاف في الخارج، ما هي إلّاَ مجرَّد انقطاعٍ مؤقت، تعود بعدها مجاري “تيار المستقبل” إلى سابقِ عَهدِها.
لكن مثل هذه العودة لا تلغي الأسباب الحقيقية التي أملت الاعتكاف وتعليق النشاط، فضلًا عن أنها تطرحُ الكثير من الأسئلة، وربما المُساءَلات، الحسّاسة حول ما جرى منذ استقالة الحريري الأولى من رئاسة الحكومة من إذاعةٍ سعودية، إلى استقالته الثانية خلال “ثورة تشرين”، وصولًا إلى قرارِ التعليق ومغادرة البلد، وقرار عدم المشاركة في الانتخابات النيابية التي أنتجت المجلس الحالي.
فالوضعُ النيابي القائم حاليًا، هو في جانبٍ كبيرٍ منه نتيجةً لخروج الحريري من الساحة. ولو خاضَ الحريري الانتخابات الماضية، لما أمكنَ لمُرَشّحي المنظّمات غير الحكومية أن يفوزوا بعددٍ من المقاعد يمنعُ أيَّ فريقٍ سياسي أساسي أن يُشكِّلَ أكثريةً نيابية مع حلفائه، ومن هنا نشأت استحالة انتخاب رئيس للجمهورية، مع ما استتبعه ذلك من انحلالٍ للدولة وللاقتصادِ الوطني.
ومن الصعبِ على أيِّ مُهتَمٍّ جدّي بالوضع اللبناني، في الداخل أو في الخارج، أن يُصدِّقَ أنَّ سعد الحريري استقالَ واعتكفَ طَوعًا. وبالتالي، تكون عودته إذا عاد، في هذه الحالة، مشروطةً، أو مُقيَّدةً بأسبابها الحقيقية غير المُعلَنة. وربما كان ذلك من الموانع الأساسية، أو حتى المانع الأساسي، لطرح الموضوع على بساط البحث والمناقشة الحرَّة، داخل “تيار المستقبل”، أو في الندوات العامة ووسائل الإعلام.
فإذا كان الاعتكافُ غير واضح الأسباب حتى الآن، فإنه يبقى غير ذي معنى، وتكون العودة إلى الماضي بصورته ساعة الاعتكاف، هي الأخرى غير ذات معنى. وهذا الاستنتاجُ المنطقي، لا يوجد غيره له معنى في غيابِ سببٍ جوهريِّ مُقنع، ليس فقط للاعتكاف، بل لدور سعد الحريري في الحياة السياسية اللبنانية من بدايته.
إنَّ العودة إلى الماضي، إذن، لا معنى لها، ولا تفي بالمطلوب الوطني، أي عودة التوازن بين مُكوِّنات الكيان اللبناني، وهذه العودة التي تستدعي التوازن الوطني لا تقوم ولا تدوم إلّاَ ببدايةٍ جديدة. لكن البدايةَ الجديدة لها مُستَلزَمات فكرية وتنظيمية قد لا يكون بعضها مُتَوَفّرًا، في الحالة الراهنة، ل”تيار المستقبل”، على أنه من المُمكن أن تسيرَ البدايةُ الجديدة، بعقد مؤتمرٍ وطني للتيار يُجري مُناقشةً مُستَفيضةً للمسيرة السابقة، على معايير نقديَّة واضحة، حتى لو كانت السلبيات طاغية على الإيجابيات، فتكون البداية الجديدة قائمة على وَضعِ خطوطٍ عريضةٍ لعقيدةٍ حزبية تضمُّ الأُطُرَ التنظيمية التي تسمح بمزيدٍ من التطوّر.
وهذه البدايةُ الجديدة، بالتالي، سوفَ تنعكِسُ على بقية الأحزاب القائمة، ومنها أحزابٌ متجمّدة أيضًا في الماضي، من حيث إن لبنان نفسه بحاجة إلى بدايةٍ جديدة. فلا بدَّ للبدايات الجديدة، بالنسبة إلى لبنان وإلى أحزابه السياسية، من أن تبدأَ في مكانٍ ما.
وقد جُرِّبت البداية الجديدة من فوق، أي من رأس الدولة، في عهد الرئيس فؤاد شهاب، واستَبشَرَ بها الناس لفترة، لكنها في النتيجة أخفقت في التطوّر والاستمرار، لكونها محاولة فوقية، ولو أنها حسنة القصد. فالتحوّلُ الأنجح، خصوصًا حيث الحاجة إليه أكبر، يجب أن ينطلقَ من تحت، من القواعد الحزبية والشعبية، ومن النقابات والهيئات الاجتماعية، لأنَّ هؤلاء يُكَوِّنون الشعب. فالاعتمادُ على الشعبِ ذاته أفعل من الاعتماد على مُمثّليه. ذلك أنَّ تَفعيلَ رقابة الشعب على مُمثّليه، من شأنه أن يُفعِّلَ رقابة مُمثّلي الشعب على الدولة. وهذه العملية معكوسة حتى الآن في لبنان، حيث الرقابة الشعبية على النواب معدومة، وبالتالي فإنَّ رقابةَ النوّاب على الدولة معدومة بدورها. وها هو لبنان بفعل ذلك يسير القهقرى وعلى غير هدى، يترنّحُ من اختلال توازناته.
وقد يقولُ قائل: لماذا يُطلَبُ من “تيار المستقبل” أن يُباشِرَ بدايةً جديدة، دون غيره من سائر الأحزاب؟ والجواب هو المصادفة التاريخية التي وضعت “تيار المستقبل” على المِحَكّ، من خلال ما تعرَّضَ له رئيسه خلال السنوات القليلة الماضية، وهو وَضعٌ ما زال مُستَمِرًّا ولم تُكتَب نهايته في الأفق بعد. هي مصادفة وهي فرصة. إذ إن أنجَحَ التحوّلات تكمنُ في تحويلِ المصاعب المُستَعصية إلى فُرَصٍ واعدة.
هذا من حيث المبدَأ. أمّا ما هو مُنتَظَرٌ في الواقع، فما زال في طَيِّ الغَيب. لكنه يُقرَأُ من ملامحه التي ظهرت قبل أيام في ذكرى اغتيال الشهيد رفيق الحريري، ومنها طُغيانُ المَظهَر على الجَوهَر. وذلك لا يُنبئ بتحوُّلٍ جذري حتى الآن.

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلِّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى