إتِّفاقُ التطبيعِ السعودي-الإسرائيلي لن يُفيدَ الولايات المتحدة

الهدف المُعلَن للتطبيع بين إسرائيل والدول العربية مثيرٌ للإعجاب وسيكون تحقيقه تاريخيًا. لكن الأمر ببساطة لا يستحق الثمن الذي تبدو إدارة جو بايدن مستعدة لدفعه.

الأمير فيصل بن فرحان وأنتوني بلينكن: حوار حول الصفقة مستمر

إيما أشفورد*

لعلَّ أغربَ تحوّلٍ في سياسة الرئيس الأميركي جو بايدن منذ توليه منصبه هو تراجعه التام عمّا أعلنه بشأن العلاقات الأميركية مع المملكة العربية السعودية. كمرشّحٍ في العام 2020، وصف بايدن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بأنه منبوذٌ ووَعَدَ بجعل القادة السعوديين يدفعون ثمن مقتل الصحافي جمال خاشقجي. وبعد ثلاث سنوات، وكجُزءٍ من حملةٍ لضمان الاعتراف الديبلوماسي السعودي بإسرائيل، تقترب إدارة بايدن أكثر من أيِّ وقتٍ مضى من تقديمِ نوعٍ من الضمانات الأمنية للرياض الذي يُمنَح فقط لأقرب وأهم حلفاء واشنطن. على الرُغمِ من أن التفاصيل الفعلية لم تُعرَف بعد أو حتى لم يتمّ الانتهاء منها بعد، إلّا أنَّ الخطوط العريضة للصفقة صارت واضحة: مقابل تطبيع العلاقات مع إسرائيل، ستحصل المملكة العربية السعودية على ضمانةٍ أمنية رسمية من الولايات المتحدة، إلى جانب المساعدة التقنية في برنامجها النووي المدني.

لقد قامت الولايات المتحدة في كثيرٍ من الأحيان بالتنازل عن قِيَمِها في الماضي لتعزيز مصالحها الأمنية المُلِحّة، وتجادل الإدارة ومؤيدوها بأن هذه الصفقة هي مجرد حالة من الضرورة الاستراتيجية. ويقولون بأنَّها ستُساعد على استقرار وتعزيز البيئة الأمنية في الخليج، والأهم من ذلك، سيساعد الولايات المتحدة على اكتسابِ ميزةٍ على الصين في منطقةٍ حَرِجة. ربما ليس من المُستغرَب أن يُركّز العديد من منتقدي الصفقة بدلًا من ذلك على سجل السعودية السيئ في مجال حقوق الإنسان. وأشار آخرون إلى الخطر المحتمل المتمثل في أن الصفقة قد تُقوِّض نضال الفلسطينيين من أجل الحقوق والدولة، فضلًا عن التأثير الذي يمكن أن تحدثه في السياسة الداخلية الإسرائيلية من خلال تشجيع الفصائل اليمينية المتطرفة في الحكومة الإسرائيلية الحالية.

لكن التركيز على سجل حقوق الإنسان في االسعودية، على الرغم من أنه قد يكون سيّئًا، هو مجرد ذريعة حمراء. المشكلة الحقيقية في هذه الصفقة كما يتم الإبلاغ عنها حاليًا هي أنها لن تفعل الكثير لتعزيز المصالح الأميركية بشأن أسعار النفط أو الاستقرار الإقليمي أو حتى المنافسة الجيوسياسية مع الصين. إن الهدف المُعلَن للتطبيع بين إسرائيل والدول العربية مثيرٌ للإعجاب وسيكون تحقيقه تاريخيًا. لكن الأمر ببساطة لا يستحق الثمن الذي تبدو إدارة بايدن مستعدة لدفعه.

لنبدأ بمسألة النفط. منذ فترة طويلة، كان الأساس المنطقي لتدخّل أميركا في المنطقة يكمن في الأهمية الفعلية للخليج العربي بالنسبة إلى أمن الطاقة الأميركي، لكن ذلك الآن آخذٌ في الانخفاض منذ سنوات. إنَّ نموَ إنتاجِ الطاقة المحلي في الولايات المتحدة لم يلغِ تمامًا حصة واشنطن في الحفاظ على استقرار أسواق الطاقة العالمية؛ ولا يزال ارتفاع أسعار النفط يؤذي الجميع. لكن تزايد الاكتفاء الذاتي في مجال الطاقة في أميركا أدّى إلى تقليل المخاطر الأمنية التي كانت سائدة في حقبة الحرب الباردة والتي دفعت واشنطن إلى جعل المملكة العربية السعودية محورًا للاستراتيجية الأميركية. بعبارةٍ صريحة، فإن الولايات المتحدة لديها الآن ما يكفي من إنتاج الطاقة المحلي إذا احتاجت إلى خوض حرب.

علاوة على ذلك، فإن الصفقة المقترحة مع السعودية لن تُضيفَ إلى أمن الطاقة العالمي. فالأسطول الخامس للبحرية الأميركية يدافع أصلًا عن الممرات المائية الحيوية داخل وخارج الخليج؛ ولهذا السبب، لم تكن واشنطن بحاجة قط إلى اتفاقٍ أمني رسمي مع الرياض. وتَخدَعُ إدارةُ بايدن نفسها إذا اعتقدت أنَّ الالتزام الأمني تجاه الرياض سيؤدّي إلى انخفاض أسعار النفط بالنسبة إلى المستهلكين الأميركيين. من الممكن أن يوافق بن سلمان على زيادة الإنتاج في المدى القصير من منطلق الامتنان، لكن ذلك غير مضمون. وستكون التأثيرات طويلة المدى على أسعار النفط واضحة. يشير تاريخ العلاقات الأميركية-السعودية بقوة إلى أن السعوديين عادةً ما يضعون مصالحهم الخاصة في المقام الأول عندما يتعلق الأمر بأسعار النفط.

الحجة الثانية التي ساقها أنصار الصفقة هي أنها ستساعد على استقرار المنطقة بل وتسمح للولايات المتحدة بسحب وجودها العسكري، في وقتٍ تعمل على تحويل تركيزها الاستراتيجي بشكلٍ متزايد نحو منطقة المُحيطَين الهندي والهادئ. لكن هذا المنطق ضعيفٌ في أحسن الأحوال. إن اتفاقَ التطبيع بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية سيكون إلى حدِّ كبير بمثابةِ إضفاءِ الطابع الرسمي على الاتجاهات التي كانت جارية أصلًا، بما في ذلك التعاون السرّي بين الجانبين بشأن إيران. كما هو الحال مع جميع الضمانات الأمنية، ستكون هناك حوافز قوية للولايات المتحدة للحفاظ على قواتها في المنطقة لتعزيز الردع وطمأنة حلفائها – وحوافز قوية بالقدر نفسه لهؤلاء الحلفاء لإدامة تلك الديناميكية وتحويل عبء دفاعهم إلى الولايات المتحدة. وبينما اختارت المملكة العربية السعودية وإيران في الأشهر الأخيرة الإنخراط الديبلوماسي والتطبيع، ليس هناك ما يضمن استمرار فترة الانفراج هذه، ما يعني أن أميركا قد تجد نفسها ذات يوم مدعوّة لتقديم الضمانات الأمنية الموعودة فعليًا.

ويُشكّلُ الجانب النووي من الاتفاق المُقترح مشكلة أيضًا. لقد طلب السعوديون، حسب تقارير موثوقة عدة، مساعدة الولايات المتحدة في برنامجهم النووي المدني، بما في ذلك إنشاء مرافق محلية لتخصيب اليورانيوم. ولكن مع استمرار القادة السعوديين، بما في ذلك بن سلمان أخيرًا، في التفكير علنًا في الحاجة المحتملة إلى سلاح نووي، فليس هناك الكثير مما يمكن القيام به لطمأنة الدول الإقليمية الأخرى بأن هذا ليس مجرد برنامج أسلحة في “ملابس خراف”. في هذا السيناريو، فإن مخاطر انتشار الأسلحة النووية في المنطقة، والتي كانت مرتفعة أصلًا منذ فشل الاتفاق النووي الإيراني، سوف تتزايد.

ربما تكون الحجة الأخيرة المُقَدَّمة لصالح الصفقة هي الأكثر خبثًا: فكرة أن الولايات المتحدة يجب أن تضاعف علاقتها مع المملكة العربية السعودية إذا أرادت منع نفوذ الصين في الخليج من النمو. من المؤكد أن الصين قامت ببناء علاقات اقتصادية أقوى بكثير في المنطقة في السنوات الأخيرة، وعلى عكس أميركا، فإنها تحافظ على استراتيجية انخراط إقليمية أكثر توازنًا، بما في ذلك علاقات قوية مع كلٍّ من إيران ودول الخليج. وهذا ليس مفاجئًا: فأكثر من نصف واردات الطاقة الصينية تأتي من الخليج. لكن الوجود الاقتصادي للصين في المنطقة يتجاوز الآن النفط، ليشمل الطاقة المتجددة ومشاريع البنية التحتية على نطاق أوسع. ونظرًا إلى مدى اتساع هذه العلاقات الآن، فإن فكرة أن الضمانة الأمنية الأميركية سوف تُبعِدُ السعودية بطريقة أو بأخرى عن الصين هي فكرة ساذجة إلى أقصى الحدود.

في الواقع، إنَّ السيناريو الأكثر ترجيحًا لهذه الصفقة هو أن تتولى الولايات المتحدة مسؤولية الأمن السعودي بينما تظل الصين الشريك الاقتصادي الأكثر أهمية للمملكة. هذا يبدو وكأنه تجارة سيئة. ربما لا يُعتَبَرُ الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب خبيرًا ذكيًا في السياسة الخارجية، لكنه شَخَّصَ المشكلة بشكلٍ صحيح في العام 2019 عندما أشار إلى أن الولايات المتحدة تدفع فعليًا مقابل حماية واردات الصين من النفط. إن الضمانات الأمنية الأميركية الأكثر صرامة قد تدفع القادة السعوديين إلى التفكير مرتين قبل التصرّف ضد المصالح الأميركية، لكن ذلك ليس مضمونًا بأيِّ حالٍ من الأحوال.

من نواحٍ عديدة، تشير حقيقة اقتراح هذه الصفقة بشكلٍ واضح إلى أن صنّاع السياسات لم يتعلّموا الكثير من الحرب الباردة، عندما كان أحدُ أسوَإِ الاتجاهات في السياسة الخارجية الأميركية هو افتراضَ أنَّ أيَّ فوزٍ للسوفيات كان بالضرورة خسارة للولايات المتحدة. وكثيرًا ما يرتكب صنّاع القرار السياسي في موسكو الخطأ نفسه. وكانت النتيجة في كثير من الأحيان أن الأنظمة الاستبدادية الفاسدة والقذرة استفادت من سخاء الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في مقابل وعود الصداقة الباهظة. لكن هذه العلاقات لم تَدُم حتمًا، وبدأت بعدها حرب المزايدة بين الجانبين من جديد. لذا، سيكون من الحكمة أن يأخذ صنّاع السياسة واشنطن في الاعتبار المخاطر التي ينطوي عليها الأمر، ويقرّروا ما إذا كان هذا هو الطريق الذي يرغبون حقًا في سلوكه مرة أخرى، ولكن هذه المرة مع الصين.

غالبًا ما يُشيرُ المحللون والممارسون في السياسة الخارجية الأميركية إلى التوتّر بين القِيَمِ والمصالح في سلوكها، أو يؤكدون على الحالات النادرة التي تتوافق فيها القِيَمُ الأميركية والمصالح الاستراتيجية، كما فعل فريق بايدن مع الحرب في أوكرانيا. ومع ذلك، فإن المشكلة في الصفقة الأميركية-السعودية المُقترحة لا تكمن في أنها تُخضِعُ القِيَمَ للمصالح. إنها إحدى تلك الحالات النادرة التي تتوافق فيها القِيَمُ والمصالح الأميركية بشكلٍ وثيق: فكلاهما يشير إلى أنها صفقة سيّئة للغاية. فهي لن تُحقّقَ فوائد لأسواق النفط العالمية، ولن تفعل الكثير لتعزيز الأمن الإقليمي، وستزيد من ضغوط الانتشار النووي ولن تُقلّل من وجود الصين في المنطقة. قد تكون صفقة التطبيع السعودية-الإسرائيلية تاريخية، لكن الثمن الذي تستعد الولايات المتحدة لدفعه مقابل ذلك هو ببساطة باهظ للغاية.

  • إيما أشفورد هي زميلة بارزة في برنامج إعادة تصوّر الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة في مركز ستيمسون، حيث يركز عملها على فن الحكم الاقتصادي وسياسات الطاقة ومستقبل السياسة الخارجية الأميركية. وهي مؤلفة كتاب “النفط والدولة والحرب: السياسات الخارجية للدول البترولية”. يمكن متابعتها عبر “إكس” (تويتر) على: @EmmaMAshford
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى