مَن يَحصَلْ على السلطة بكرامة فليَخرُجْ بكرامة

بقلم السفير جان معكرون*

ستيف براكس، رئيس حكومة ولاية فيكتوريا – أوستراليا، وهو من أصول لبنانية من مدينة زحلة، أعلن استقالته في 27/7/2007 بعد أن تولّى لمدة ثماني سنوات أرفع منصبٍ حكومي وحقّق نجاحات كبيرة، إذ عرفت الولاية في عهده نمواً ملحوظاً وانخفاضاً في نسبة البطالة، والسؤال الذي نطرحه هنا، لماذا استقال من منصبه؟

بينما كان ستيف براكس يمضي إجازة عائلية في منطقة جبلية تاركاً ابنه البالغ عشرين سنة برفقة صديقه في منزله وسط مدينة ملبورن، خرج نجله في سيارته ليلاً لشراء حاجياته فتعرّض لحادث سير. إثر ذلك، حضرت شرطة المدينة وقامت بالفحص الروتيني لنسبة الكحول في دمه فتبيّن لها أنها تخطّت النسبة المسموح بها قانوناً. فخضع كغيره من المواطنين للإجراءات القانونية. وكان من الطبيعي ألاّ يتدخّل والده، وهو المسؤول الحكومي الأول في الولاية، إذ ليس من شِيَمِه أن يتدخّل لمصلحة أحد في هكذا حالة، كيف لا وهو كان مًشرِّعاً في البرلمان قبل أن يكون رئيس حكومة، إذ لا يُعقَل في نظره أن يكون مُنتَهِكاً للقوانين بعدما كان مُشرِّعاً لها وهو بفعل وظيفته الأَولى بتطبيق القوانين.

لقد تأثّر براكس معنوياً بهذه الحادثة، وتعرّض لحملات إعلامية أساءت إلى سمعته بحيث اعتبرته مسؤولاً معنوياً وأدبياً عن ابنه الذي تخطّى النسبة المسموح بها في تناول الكحول، لكن بعد حوالى أسبوع، أعلن استقالته مُبرّراً إياها بالآتي: “إنني صادقٌ مع نفسي، فعندما أصبحتُ غير قادرٍ على تكريس وقتي الكامل لمهامي الحكومية ولأسباب عائلية، فإني أستقيل”.

وأضاف أنه في حاجة ماسّة إلى تكريس وقتٍ أكبر لعائلته.

لا شكّ أنّ براكس قد تميّز بالجرأة السياسية عندما اتّخذ قراره الحاسم بالإستقالة، وإنه بذلك قد وضع حدّاً لسلطته الحكومية في الوقت المناسب وبطريقة مُشرّفة للأسباب التالية:

  • مخافة أن يتعرّض لانتقاداتٍ مُتتالية لاذعة من وسائل الإعلام لعدم تنبيه ابنه من مخاطر الإسراف في تناول الكحول.
  • حتى لا يؤثر سلباً على حزب العمل الذي يترأّسه وذلك تجاه الرأي العام.
  • أصرّ على الإستقالة لكي يبرهن للرأي العام أنه مسؤولٌ وها هو يتحمّل مسؤوليته، وأنه لا يتمسّك بالسلطة، وأنه أنجز ما أنجزه مُفسحاً المجال لغيره ليخدم الوطن.

أما المثل الثاني عن الإستقالة المُشرّفة فهي استقالة مستشار ألمانيا الغربية فيلي برانت في العام 1974، والذي حكم ابتداءً من العام 1969 لغاية 1974، وحاز جائزة نوبل للسلام في العام 1971 لأنه كان مُمَيزاً في أدائه الحكومي، وعُرِفَ بجهوده القيّمة في توثيق علاقات التعاون في أوروبا الغربية إضافةً إلى تحقيقه المصالحة بين ألمانيا الغربية ودول أوروبا الشرقية. لقد استقال فيلي برانت بعد أن اكتشف أنّ مدير مكتبه قد عمل جاسوساً لصالح ألمانيا الشرقية آنذاك. ولقد تحمّل مسؤوليته السياسية كاملةً، إذ لا يُعقَل أن يكون ساعده الأيمن جاسوساً لدولة أخرى.

وأما الإستقالة الثالثة والمُشرّفة فهي استقالة شارل ديغول من منصبه بعدما أمضى 11 عاماً. كان أقوى رئيس دولة في فرنسا منذ نابوليون الثالث، ورمزاً وطنياً لفرنسا الحرة خلال الإحتلال النازي. ففي شهر نيسان (إبريل) 1969، أجرى استفتاءً شعبياً عاماً لمشروع قانون إصلاحي للمؤسسات وربط مصيره كرئيس بنتيجة التصويت لتجديد الثقة الشعبية به، لكن 52,87% من الناخبين قالوا لا مقابل 47,13% أيّدوا الرئيس، فما كان منه إلاّ أن استقال في 28/4/1969. إنه حقاً رجل دولة عظيم، ديموقراطي الهوى لأنه أراد أن يتأكد من تجديد ثقة الشعب به لكي يستمرّ في الحكم. وكان بإمكانه أن يكتفي بإجراء الاستفتاء على مشروعه الإصلاحي من دون أن يربط مصيره السياسي بنتيجة هذا الاستفتاء، لكن آثر العودة إلى الشعب المالك الوحيد للسيادة. وهكذا خرج من الحكم كما دخل ديموقراطياً وكما يجب أن يحصل، وذلك قبل أن يسأم منه الشعب الذي يحتاج دائماً إلى تجدّدٍ في الحكّام، وإلى رؤيةٍ جديدة، وطرق حكم حديثة تواكب الواقعات الاجتماعية والسياسية العصرية، لأنّ التاريخ يظهر أنّ المؤسسات لا تدوم ولا تنمو وتزدهر إلّا بتغيّر الحكام.

إنّ من أبرز الاستقالات وأرقاها في القرن الواحد والعشرين هي استقالة البابا بنديكتوس السادس عشر، وهو أول بابا يستقيل من تلقاء نفسه منذ 600 سنة على الأقل.

استقال في 23/2/2013 وبرّرها بتقدمه في السن وتدهور صحته وعدم قدرته على تولّي مهامه بشكلٍ فاعل. كم هو جميلٌ أن يعيَ الحاكم حقيقة إمكانياته الصحّية والمعنوية ويعترف بذلك، فاسحاً المجال أمام غيره للعمل والعطاء والإبداع للمصلحة العامة.

ولقد علّق الرأي العام على هذه الاستقالة غير المألوفة بالآتي: “لقد علّمنا بنديكتوس السادس عشر أن نُجابه طول العمر بكرامة”.

نعم، لقد تنحّى بكرامة قبل أن يغدره جفاف الذاكرة، وأن يُفاجَأ بعجز قواه الجسدية والفكرية، وقبل أن يخسر سيادة نفسه على قوله وعمله ومسؤوليته ويصبح تحت رحمة الغير.

وإذا نظرنا من الزاوية الزمنية وتركنا جانباً الناحية الروحية وهي الأرقى، نقول إنّ البابا بنديكتوس 16 ترك مجداً وجاهاً، كم هو كبير في إيمانه فاستقال.

كان الشاعر سعيد عقل يُردّد أمامي أنّ بابا روما هو أقوى رئيس دولة في العالم لأنه قادر على تحريك أكثر من مليار كاثوليكي في العالم، مع أنّ مساحة الفاتيكان أقل من ميل مربع واحد، وعلماً أنه لا يملك جيوشاً ولا صواريخ ولا حاملات طائرات…

وهكذا، يتحصّل لنا من مجمل ما تقدّم أنه يترتب على كل مسؤول سياسي أو مالي أو إداري أو قضائي رفيع المستوى أن يتنحّى من منصبه في حال ارتكب خطأً جسيماً، أو وجد نفسه غير قادر على تحقيق أي إنجاز، أو عجز عن الإبداع أو الابتكار في عمله، أو خالف القوانين الوضعية والدستورية، أو قصّر في تأمين رفاهية المواطن وعيشه الكريم.

لا يختلف اثنان على أنّ كل من يتولّى مسؤولية عامة أن يتحمل المسؤولية وهذه ميزة من أهم ميزات الديموقراطية والحكم الرشيد. ولكن ما معنى أن يتحمّل السياسي المسؤولية؟

تحمّل المسؤولية ليس عبارة مُبتذلة أو كلاماً مُعاداً يُردّده الحكّام أمام الرأي العام لتخديره لكي ينسى إخفاقاتهم كما تعوّدنا أن نرى، من دون رقابة أو محاسبة أو حتى اعتذار.

فتحمّل المسؤولية يستلزم أن يستقيل ويعتذر الحاكم أو المسؤول إذا لم يقتنع الرأي العام بتبريرات عمله الخاطئ أو المخالف للقوانين أو الدستور، لأنه من المُسلَّم به أن يميز كل من يتولّى مسؤولية عامة بين الخطأ والصواب.

علماً أنه في حال تخلّف أو امتنع المسؤول عن تقديم استقالته أو تهرّب من المحاسبة، فإنّ هذا الوضع سيؤدي حتماً إلى عدم امتثال العديد من المسؤولين للقوانين، ما يُفسح المجال أمام الفوضى المؤدية إلى انهيار النظام القانوني، وتصبح الدولة عندها مسرحاً لشريعة الغاب.

ومن المفيد القول هنا أنه من غير المُستَحَب أن يكتفي الحاكم بتعداد سنوات خدمته من دون إنجازات وهو يتمسك بالسلطة حباً بها فقط. وعليه أيضاً ألاّ يتشبّث بالسلطة من أجل الجاه الشخصي، أو الإمتيازات الشكلية الفارغة، “فالسلطة هي نشوة تلعب بالرؤوس كنشوة الخمر” على حدّ قول العالم الفرنسي المتعدد الثقافات “غوستاف لوبون” (GUSTAVE LE BON)؛ والسلطة تستهلك الحاكم أو المسؤول، وعندما يستنفد طاقاته الفكرية والجسدية تنتفي أي فائدة من وجوده، ولذلك عليه ألاّ يتأخر في التنحّي قبل أن تتصاعد النقمة الشعبية والانتقادات اللاذعة ضده فيخرج بكرامة كما دخل إلى السلطة بكرامة.

لا بدّ من الإشارة إلى أننا ألقينا الضوء على أربع استقالات، وهي استقالة رئيس حكومة ولاية فكتوريا اللبناني الأصل، ثمّ مستشار ألمانيا الغربية، وشارل ديغول، وأخيراً البابا بنديكتوس السادس عشر. والواضح لدينا أنّ القاسم المشترك بين هذه الاستقالات هو حرص هؤلاء على الحفاظ على كراماتهم. والكرامة في هذا السياق تعني أن يحافظ الحاكم على احترام الغير له، وألاّ تتشوّه قيمته المعنوية والأخلاقية، فهو الذي يتألم إذا ما انتُقص قدْره خصوصاً إذا أصبح موضوعَ تذمّر وإهانة من قبل الرأي العام الذي أُصيب بخيبة أمل من فشل الحكّام.

وأخيراً، نأسف لدى قراءة ما كتب المفكر والفيلسوف السياسي الإيطالي نيكولو ماكيافيلّي عندما قال: “إنّ الإنسان مُسيَّر بميله الطبيعي إلى الحصول على السلطة، وعند امتلاكها، فإنه يحتفظ بها ولا يرى في السياسة سوى النضال من أجل السلطة”.

لكننا رُغم ذلك، لا نرى في السياسة أو في السلطة إلاّ رسالة سامية ترتقي بالإنسان إلى بلوغ مستوى القيَم ومن أهمها السلام والعدل بين الناس ورفاهيتهم.

  • الدكتور جان معكرون هو باحث وسفير لبناني سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى