سوريا تَبحَثُ عن دولة… وواشنطن تَبحَثُ عن إنجاز
كابي طبراني*
في غضونِ عامٍ واحدٍ فقط، انتقلت سوريا من قبضةٍ ديكتاتوريةٍ امتدّت لعقود إلى لحظةٍ نادرة من السيولة السياسية تُتيحُ احتمالَ إعادةِ تشكيلِ المشهد الإقليمي برمّته. ومع ذلك، فإنَّ هذه اللحظة نفسها مُعَرَّضة للضياع. فالولايات المتحدة، التي استقبل رئيسها دونالد ترامب الرئيس أحمد الشرع في المكتب البيضاوي وعلّقت جُزءًا من عقوباتها، تقفُ اليوم أمامَ خيارٍ أساسي: هل تكتفي باللقطات الدرامية والصور الفوتوغرافية والرسائل الرمزية، أم تتجه إلى الاستثمار الفعلي في إعادةِ بناءِ دولةٍ محطّمة تبحثُ عن توازُنٍ جديد؟
لقد تميّزت سياسة إدارة ترامب تجاه سوريا بمزيجٍ من الجرأة والارتجال. فاحتضانُ واشنطن لرئيسٍ سوري من خلفيةٍ جهادية، كان وجوده في البيت الأبيض ضربًا من الخيال قبل سنوات قليلة، يعكسُ حَجمَ التحوُّلات التي طرأت على الإقليم. ولا شكَّ أنَّ الرغبةَ في إعادةِ سوريا إلى المجتمع الدولي هدفٌ منطقي في سياقِ البحث عن الاستقرار الإقليمي. لكن أيّ استراتيجية قائمة على المبادرات الصاخبة من دون خططٍ طويلة الأمد تُهدّدُ بإعادةِ إنتاجِ العوامل ذاتها التي غذّت دوّامة الحرب خلال السنوات الماضية.
فما يجري داخل سوريا اليوم بالغُ التعقيد. الحكومة الجديدة عبارةٌ عن مزيجٍ غير مألوف: مقاتلون سابقون ينحدر بعضهم من تنظيماتٍ جهادية، ناشطون من المجتمع المدني الذين تفتّحَ وعيهم السياسي خلال انتفاضة 2011، تكنوقراط وشباب تلقّوا تعليمهم في الخارج وعادوا في أعقاب سقوط النظام، إلى جانب موظّفين وبيروقراطيين من عهد الأسد اختارت الحكومة الجديدة الإبقاء عليهم تفاديًا لتكرار أخطاء “اجتثاث البعث” في العراق. النتيجة هي مشهدٌ سياسي مُتَذَبذِب لكنه ليس ميؤوسًا منه، يسعى إلى إيجادِ صيغةٍ جديدة بعد انهيار النظام الذي حكم البلاد لعقود.
تكشف روايات الزائرين وموظفي الإغاثة لدمشق عن التناقض الصارخ الذي يطبع المشهد السوري اليوم. ففي العاصمة، يبدو أن الحياة بدأت تستعيد إيقاعها المعتاد؛ المقاهي مزدحمة، والمتاجر تظل مفتوحة حتى وقت متأخر، وكأن المدينة تحاول استجماع ملامحها القديمة. لكن خارج هذا الجيب الحضري النابض، في مناطق مثل الغوطة الشرقية، يظل الدمار حاضرًا بكل ثقله. أحياء كاملة ما تزال عبارة عن هياكل إسمنتية فارغة، شاهدة على سنوات من القصف. العائلات العائدة بعد عقد من اللجوء تصف سيرها بين مبانٍ مهدّمة، فيما يحمل الأطفال حقائب مدرسية متبرَّع بها ويسيرون في شوارع ما تزال مطبوعة بآثار البراميل المتفجرة. ومع تقدير تكلفة إعادة الإعمار بأكثر من 200 مليار دولار، ومعيشة 90% من السوريين تحت خط الفقر، يبدو حجم التحدي هائلًا. ومع ذلك، فإن الرغبة في العودة تحمل قوة عاطفية لافتة، إذ يتحدث العائدون عن معنى استعادة البيت، وعن محاولة “التعرّف إلى بعضنا من جديد”، كما قال أحدهم.
هذه الهشاشة لا تعني أنَّ مسارَ البلاد واضح. فالسؤال الأكبر يتعلّقُ بشكل النظام السياسي المقبل: كيف ستُدارُ العلاقات بين الأغلبية العربية السُنيّة والمكوِّنات الكردية والعلوية والدروز والمسيحيين؟ هل يُمكِنُ بناءُ نموذجٍ لا مركزي يضمن التمثيل من دون أن يفتحَ الباب لتفكُّك الدولة؟ ما مصير ملايين النازحين واللاجئين في لبنان والأردن وتركيا؟ ما مصير عشرات الآلاف من معتقلي تنظيم “داعش” وذويهم؟ وكيف ستتمُّ إدارة التنافس الحاد بين تركيا وإسرائيل وإيران وروسيا، وكلٌّ منها يرى في سوريا ساحةَ نفوذٍ حيوية؟
تُؤكّدُ هذه الأسئلة حقيقةً أساسية: لا يُمكِنُ فَصلُ إعادة الإعمار الاقتصادي عن إعادةِ بناء المؤسّسات والحكم المحلي وهيكلة القطاع الأمني. فالمشاريعُ الضخمة التي يُفضّلها ترامب قد تُرضي عواصم إقليمية عدة، لكنها وحدها لا تكفي. تحتاج سوريا إلى دعمٍ سياسي وتقني وقانوني يضمن شفافية إدارة الدولة ويمنع عودة الهشاشة أو تفكّك المؤسّسات التي بدأت تتعافى ببطء شديد.
رُغمَ تعليق بعض العقوبات الأميركية، لا يزال الكونغرس مُتَرَدِّدًا في رفعها بالكامل، في ظلِّ مخاوف من منح شرعيةٍ مطلقة لحكومة يترأسها رجلٌ ذو تاريخٍ قتالي وجهادي مُعَقّد. غير أنَّ الإبقاء على العقوبات في شكلها الحالي لن يعاقب الأسد—الذي خرج من المشهد—بل سيخنق المجتمع السوري ويمنح القوى الإقليمية مساحةً أكبر لتعزيز نفوذها داخل البلاد على حسابِ أيِّ رؤيةٍ طويلة المدى للاستقرار.
أكثر الملفّات حساسيةً يبقى مستقبل العلاقة مع إسرائيل. فمنذ اتفاق فك الاشتباك في العام 1974 بقيت الحدود السورية–الإسرائيلية باردة لكنها مستقرّة بفضل ترتيباتٍ أممية. الجديد اليوم هو استعدادُ حكومة دمشق للدخول في محادثات غير مباشرة مع إسرائيل، مدفوعةً بتشجيعٍ واضح من واشنطن. ليس هذا مسارًا نحو سلام شامل، فإسرائيل ما زالت تشنّ غارات على مواقع داخل سوريا، ولا تزال مرتابة من طبيعة القيادة الجديدة. لكن خطوات تدريجية—من تنسيق الحدود إلى آليات فضّ الاشتباك—قد تُمهّد الطريق أمامَ مسارٍ سياسي أوسع.
أما مسألة انضمام سوريا إلى التحالف الدولي ضد “داعش”، فهي تملكُ دلالةً رمزية وسياسية كبيرة. بالنسبة إلى الرئيس الشرع، فإنَّ عضويةً كهذه يُمكِنُ أن تشكّل إعلانًا واضحًا لقطع العلاقة مع الإرث الجهادي لفصائل سابقة، ورسالةً للغرب بأنَّ دمشق الجديدة جُزءٌ من المعركة ضد التطرُّف. لكنَّ الرفضَ الشعبي داخل سوريا ما زال قويًا بفعل ذكريات المعارك التي دَمّرت مدنًا كاملة مثل الرقة. التعاملُ الجاد مع هذه الحساسية شرطٌ أساسي لنجاحِ أيِّ مُقاربة دولية.
كلُّ هذه المسارات تجعل الانخراط الأميركي المُستدام ضرورة وليس رفاهية. فإعادة فتح السفارة الأميركية في دمشق—وهو اقتراحٌ يتردد في الأوساط الديبلوماسية—يمكن أن يمنح واشنطن فهمًا مباشرًا ودقيقًا للديناميات الأمنية والسياسية على الأرض، ويسمح لها بتوجيه الأحداث بدل مراقبتها من بعيد. كما يحتاج الدور الأممي إلى تعزيزٍ فعلي لضمان وصول المساعدات وإدارة عمليات العودة وتثبيت الخدمات الأساسية بشكلٍ عادل.
إنَّ البديلَ من هذا النهج—الاكتفاء بالديبلوماسية الرمزية—سيُهدِرُ الفرصة التي تشهدها سوريا اليوم. فالدولة تقف على مفترق طرق، لم تعد في مرحلة انهيار، لكنها لم تدخل أيضًا مرحلة الاستقرار المؤسّسي. إنها لحظة “بلاستيكية”، قابلة للتشكّل في أكثر من اتجاه، وتحتاج إلى شريك دولي قادر على الاستثمار في التفاصيل لا في الشعارات.
لقد ساهمت واشنطن في خلق هذه اللحظة. ويبقى السؤال: هل ستتصرّف بما يكفي من الحكمة والمسؤولية لتحويلها إلى نقطة تحوّل حقيقية، أم ستتركها تتبخّر كما تبخّرت فُرصٌ سابقة في الشرق الأوسط؟ الجواب سيحدد ليس فقط مستقبل سوريا، بل أيضًا مصداقية الدور الأميركي في المنطقة.
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على: @GabyTabarani



