السودان يَنزِف: مَن يُوقِفُ مَهرجانَ الدَمّ؟
كابي طبراني*
يشهدُ السودان أزمةً وجودية غير مسبوقة، أزمةٌ تتقاطعُ فيها الأبعادُ السياسية والإنسانية والأمنية لتُشَكِّلَ أخطرَ تهديدٍ يُواجِهُ الدولة منذ استقلالها. فالحربُ الدائرة منذ أكثر من عامين بين الجيش وقوات الدعم السريع لم تُدَمِّر مُؤسَّسات الدولة فحسب، بل مَزّقت المجتمع، وخلّفت أكبر موجة نزوحٍ في العالم اليوم، ودفعت البلاد إلى حافةِ مجاعةٍ واسعة النطاق. وبرُغم هذا الانهيار المُروِّع، ظلَّ الحراكُ الدولي تجاه السودان باهتًا ومُترَدِّدًا، إلى أن ظهر أخيرًا تصريحٌ لافتٌ للرئيس الأميركي دونالد ترامب بعد لقائه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، أعلن فيه عزمه “العمل على إنهاء الحرب في السودان”. ورُغمَ أنَّ هذه التصريحات أثارت انتباهًا استثنائيًا، فإنها تكشُفُ أيضًا عن حقيقةٍ أعمق: السودان لا يَدخُلُ أجندةَ القوى الكبرى إلّا عندما تتقاطعُ أزمته مع حساباتٍ سياسيّةٍ تخصُّ تلك القوى، لا عندما تتجاوزُ الكارثةُ حدودَ الاحتمالِ الإنساني.
فما يمرُّ به السودان ليس مجرَّدَ نزاعٍ داخلي، بل نتيجة طبيعية لانهيار المرحلة الانتقالية ما بعد سقوط النظام السابق، ونتيجة مباشرة لتصارُعِ مراكز النفوذ بين الجيش والدعم السريع، في ظلِّ غيابِ رؤيةٍ مُشتَرَكة لمستقبل الدولة. فعندما انهارت ثقة الطرَفَين، وبرزَ الخلافُ حولَ دمج قوات الدعم السريع في الجيش، كانَ الانفجارُ مسألةَ وقتٍ لا أكثر. وما إن اندلعت الشرارة حتى تحوّلت الخرطوم إلى ساحةِ معارك مفتوحة، وامتدَّ الدمارُ إلى مناطق واسعة في دارفور وكردفان، وتحوّلَ المدنيون إلى ضحايا في حربٍ لا علاقةَ لهم بها سوى أنهم يعيشون على الأرض التي يتنازع عليها المتحاربون.
دارفور، التي تحمُلُ جراحًا تاريخية لم تندمل منذ مأساة العقد الأول من الألفية، عادت مرة أخرى إلى واجهة الأحداث بأبشع الصور. فالتقارير والشهادات الواردة من الإقليم تُشيرُ إلى عملياتِ قتلٍ جماعي، واغتصاب، وتهجيرٍ قسري، ومُمارساتٍ ترقى إلى التطهير العرقي. في مدينة الفاشر، على سبيل المثال، وَثّقَت صورُ الأقمار الاصطناعية مَواقِعَ يُعتَقَدُ أنها مقابر جماعية، كما أشارت شهادات إلى اقتحامِ المستشفيات وقتل المرضى والأطباء والجرحى داخل غرفهم. هذه المشاهد المُفزِعة ليست أحداثًا معزولة بل جُزءٌ من نمطٍ واسعٍ يَعكِسُ انهيارًا كاملًا للضوابط الأخلاقية والقانونية في ساحة القتال.
وفي خضمِّ هذا الانهيار، تُواجِهُ البلاد أزمةً إنسانية لا تُوصَف. أكثر من نصف السكان بحاجةٍ إلى مُساعداتٍ عاجلة، فيما يعيشُ ملايين النازحين في ظروفٍ تَفتَقرُ إلى الغذاء والماء والدواء والمأوى. آلافُ العائلات التي فرّت نحو تشاد وجنوب السودان تروي قصصًا مُروِّعة عن رحلاتٍ تستمرُّ أيامًا عبرَ عشرات الحواجز التي يُصاحِبُها العنف والنهب والقتل، وعن أطفالٍ فقدوا آباءهم أمام أعينهم، ونساءٌ تعرَّضنَ لاعتداءاتٍ وحشية، وناجين وصلوا إلى الحدود في حالةِ صدمةٍ عميقة تجعلهم غير قادرين حتى على الحديث عمّا مرّوا به. إنها مأساةٌ يتجاوز أثرها اللحظة الراهنة، إذ ستَترُكُ ندوبًا نفسية واجتماعية لأجيال مقبلة.
ورُغمَ وضوحِ حجم الكارثة، ظلَّ الموقفُ الدولي مُقَيَّدًا بتناقُضات المصالح. فهناكَ أطرافٌ إقليمية تُحاوِلُ فعلًا دَفعَ العملية السياسية قُدُمًا، بينما أطرافٌ أُخرى تُتَّهَمُ بتقديمِ دَعمٍ مباشر أو غير مباشر لأحد طرفَي القتال، ما يزيد النار اشتعالًا. السعودية، من جانبها، لعبت دورًا محوريًا من خلال محادثات جدة، مُستفيدةً من قدرتها على التواصل مع الطرفين. أما دولة الإمارات، فقد طالتها اتهاماتٌ مُتكرّرة بدعم قوات الدعم السريع بالسلاح، رُغمَ نفيها ذلك. مصر، من جهتها، ترى في دعم الجيش جُزءًا من حساباتِ أمنها الاستراتيجي. هذه التشابُكات تجعلُ السودان ساحةَ تنافُسٍ غير مُعلَن، تتحرّكُ فيها المواقف وفق المصالح لا وفق الضرورة الإنسانية.
ولذلك، فإنَّ تصريحاتَ ترامب بعد لقائه الأمير محمد بن سلمان—مهما اختلفت الدوافعُ وراءها—تُسلّطُ الضوءَ على نقطةٍ أساسية: السودان بحاجةٍ إلى تدخُّلٍ دولي من مستوى مختلف تمامًا عمّا شهدناه حتى الآن، تدخُّلٌ يَقومُ على إرادةٍ سياسية لا على بياناتٍ إنسانية فقط. إذا كانَ في وسعِ واشنطن أن تَحشدَ تحالفاتٍ دولية لمُعالجة نزاعاتٍ أخرى حول العالم، فلماذا يُترَكُ السودان لينزلق وحده نحو الهاوية؟ الدول الكبرى ليست عاجزةً عن فَرضِ وقفٍ لإطلاق النار أو فَرضِ عقوباتٍ على الجهات التي تُغذّي القتال، لكنها ببساطة لم تُظهِر الإرادة الكافية للقيام بذلك.
والواقع أنَّ أيَّ تحرُّكٍ جدّي لإنقاذِ السودان يجب أن يتضمّنَ خطواتٍ واضحة، تبدأ بوَقفِ تدفُّقِ السلاح إلى جميع الأطراف، وهو الإجراء الأوّل والأكثر إلحاحًا. كما يجب إطلاقُ مسارَ مُساءلة دولية يضمنُ مُحاسبة المسؤولين عن الجرائم الجماعية، وخصوصًا في دارفور، لأنَّ العدالة جُزءٌ من أيِّ حلٍّ مُستدام. ولا يُمكِنُ تَجاهُل دور القوى المدنية السودانية التي قادت ثورة 2019 وكانت الأمل الحقيقي في بناءِ دولةٍ جديدة؛ فمن الضروري إعادة إدماج هذه القوى في أيِّ عمليةٍ سياسيّة مستقبلية لضمان شرعية الحل ومصداقيته. وفي الوقت نفسه، يجب توسيع نطاق المساعدات الإنسانية فورًا وتسهيل وصولها عبر ممرّاتٍ آمنة تُرَتَّبُ بالتنسيق بين القوى الدولية والإقليمية.
إنَّ السودان اليوم يقفُ أمامَ مُفترَقِ طُرُقٍ حاسم. فإمّا أن يتحرّكَ المجتمع الدولي بشكلٍ مُنَسَّقٍ ومسؤول، وإمّا أن تُترَكَ دولةٌ بكاملها تسقط في فراغٍ قد يمتدُّ أثره إلى دولِ الجوار والمنطقة بأسرها. فالكارثة السودانية ليست شأنًا محلّيًا؛ إنها أزمةٌ تُهدّدُ الاستقرارَ الإقليمي، وقد تتحوَّلُ إلى بؤرةِ توتُّرٍ دائمة إذا لم تُعالج جذورها بجدّية.
وبينما تتسابقُ الأحداث، يبقى السؤال الأهم: هل سيكونُ تصريحُ ترامب بدايةَ مسارٍ جديدٍ يُعيدُ السودان إلى طاولة الاهتمام الدولي، أم مجرّد حلقة أخرى في سلسلة البيانات التي لا تُترجَم إلى أفعال؟ الشعبُ السوداني، الذي دفع أثمانًا باهظة، لا ينتظرُ خطابات، بل ينتظرُ خطواتٍ ملموسة تُوقِفُ نزيف الدم، وتعيدُ له بعض ما فقده من أمنٍ وكرامة وأمل.
إنَّ ما يجري في السودان ليس اختبارًا لقدرة السودانيين على الصمود فحسب، بل اختبارٌ لضمير العالم. وإذا فشل هذا الضمير في التحرّك الآن، فسيكونُ الأوانُ قد فاتَ على إنقاذِ بلدٍ يُوشِكَ أن يفقدَ كلَّ شيء.
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على: @GabyTabarani



