تَحالُفٌ يُختَبَرُ من جديد: السعودية وأميركا على مُفتَرَقٍ استراتيجي
كابي طبراني*
تشكّل زيارة وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن أكثر من مجرّدِ خطوة ديبلوماسية تقليدية؛ إنها محطّةُ اختبارٍ لإعادةِ تعريفِ موقع السعودية في النظام الدولي ودور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. ففي لحظةٍ تتغيّرُ فيها خرائط القوة العالمية، وتتصاعَدُ فيها المنافسة بين القوى الكبرى، تبدو هذه الزيارة بمثابةِ مُحاولةٍ مُشتركة لإعادة هندسة العلاقة بين الرياض وواشنطن بما يتجاوز اعتبارات اللحظة ويؤسّس لتوازُناتٍ جديدة في الإقليم.
تأتي الزيارة في وقتٍ تُعيدُ الولايات المتحدة النَظَرَ في التزاماتها الخارجية، مُتَأرجِحَةً بين رغبتها في تقليصِ أعبائها العسكرية في الشرق الأوسط وحاجتها إلى الحفاظِ على نفوذها في مواجهة الصين وروسيا. وفي هذا السياق، لا تَنظُرُ واشنطن إلى السعودية باعتبارها شريكًا تاريخيًا فحسب، بل كحلقةٍ مركزية في استراتيجيةٍ كُبرى تهدفُ إلى مَنعِ الخصوم من ملء الفراغات الجيوسياسية التي تتركها الولايات المتحدة أثناء إعادة تموضعها.
من جانبها، تدخلُ السعودية الزيارة بوصفها دولةً صاعدة تتجاوز حدود دورها التقليدي كقوّةٍ نفطية إلى لاعبٍ إقليمي مُؤثّر يملكُ هامشَ مُناورةٍ واسعًا بين القوى الكبرى. فالمملكة التي يُعاد تشكيلُ اقتصادها ومجتمعها ضمن “رؤية 2030” تسعى إلى تثبيتِ مكانتها في النظامِ العالمي الجديد، وتُريدُ شراكةً مع الولايات المتحدة لا تَقومُ على التبعية، بل على المصالح المُتبادَلة والموقع المحوري في بُنيةِ الأمنِ الإقليمي.
في قلبِ هذه الزيارة يَكمُنُ ملفّ الأمن الإقليمي، وهو ملفٌّ لم يَعُد يُقاسُ بالترتيبات العسكرية وحدها، بل بقدرةِ السعودية والولايات المتحدة على إنتاجِ نظام ردعٍ جديد في الخليج والبحر الأحمر. فالتغيُّرات التي أصابت موازين القوى—خصوصًا تراجُع نفوذ إيران إثر الضربات المتتالية لميلشياتها وأذرعها، وتشتُّت الساحات المحيطة مثل اليمن وسوريا—تجعل من الرياض شريكًا أساسيًا في صياغة مرحلة ما بعد الفوضى. بالنسبة إلى واشنطن، هذا يعني إمكانيةَ بناءِ هندسةٍ أمنية جديدة تُخفّفُ من الحاجة إلى التدخُّلِ المُباشَر، وتضمن في الوقت نفسه احتواء النفوذ الإيراني والصيني من دون الانخراطِ في نزاعاتٍ مفتوحة.
أمّا بالنسبة إلى السعودية، فالأمنُ الإقليمي لم يَعُد هدفًا في ذاته، بل شرطًا أساسيًا لإنجاحِ مشروعِ التحوُّل الاقتصادي. فالمملكة تُدرِكُ أنَّ الاستثمارات الضخمة المطلوبة للبُنية التحتية التكنولوجية والسياحية والطاقوية لا يُمكِنُ أن تتدفّقَ في بيئةٍ مُهدَّدة بشكلٍ مُستَمِرّ. ولذلك تُفضّلُ الرياض نهجًا يقومُ على تهدئة المحيط الإقليمي، وإدارة العلاقة مع إيران بما يسمح بخَفضِ مستوى التوتّر، من دون الانخراط في تحالفاتٍ جامدة قد تُقَيِّدُ خياراتها.
ولا تقلُّ ملفات التكنولوجيا والاقتصاد أهمّيةً عن ملف الأمن. فالولايات المتحدة ترى في السعودية شريكًا قادرًا على لعبِ دورٍ رئيس في النظام الاقتصادي العالمي الجديد، حيث باتت الطاقة والذكاء الاصطناعي والمعادن النادرة عناصر رئيسة في تنافُس القوى الكبرى. وفي الوقت نفسه، تبحث السعودية عن “مُعادلة تموضُع” تَضمَنُ لها الوصول إلى التكنولوجيا المُتقدِّمة من دون الارتهان لأيِّ طرفٍ دولي. ومن هنا يأتي سعيها إلى موازنة العلاقات مع الصين والولايات المتحدة، مع الحرص على أن تكون الشراكة مع واشنطن ذات أولوية عندما يتعلق الأمر بالتكنولوجيا العسكرية والذكاء الاصطناعي.
وعلى المستوى الإقليمي، تسعى واشنطن إلى الاستفادة من الدور السعودي في تهدئة ملفات اليمن والبحر الأحمر والعراق ولبنان وسوريا، وهي ملفّات لم تَعُد مجرّد نزاعات هامشية، بل جُزءٌ من صراعٍ أوسع على طرق التجارة العالمية، وموارد الطاقة، وعمليات إعادة الإعمار. ومن جهةٍ أخرى، باتت السعودية تُدرِكُ أنَّ موقعها الجيوسياسي يفرضُ عليها المشاركة في تشكيلِ هذه التوازُنات، لا لتخفيف الأعباء على الولايات المتحدة فحسب، بل لحماية مصالحها الوطنية التي أصبحت أكثر تشابكًا مع الاقتصاد العالمي.
ورُغمَ الطابع الاستراتيجي للزيارة، فإنَّ البُعدَ الرمزي يبقى حاضرًا بقوة. فعودة العلاقات بين الطرفين إلى مسارها الطبيعي بعد سنواتٍ من التوتُّر—بسبب قضايا حقوق الإنسان وملف الصحافي جمال خاشقجي وبعض التبايُنات الاستراتيجية—تعكسُ اعترافًا أميركيًا واقعيًا بأنَّ السعودية اليوم جُزءٌ لا يُمكِنُ فصله عن أيِّ حساباتٍ تخصُّ الشرق الأوسط. كما تعكسُ من الجانب السعودي اقتناعًا بأنَّ التحالفَ مع واشنطن، رُغمَ ما يعتريه من خلافات، لا يزالُ الضمانة الأكثر موثوقية لتحقيقِ استقرارٍ طويل الأمد.
لكن السؤال الأساسي الذي ستُجيبُ عنه الأشهر المقبلة هو ما إذا كانت هذه الزيارة نقطةَ انطلاقٍ نحو شراكةٍ مؤسَّسية جديدة، أم محطّةً ضمن دورة تقارُبٍ وابتعاد تُميّزُ العلاقة منذ عقود. فالمملكة تسعى إلى شراكة متوازنة، والولايات المتحدة تبحث عن شريكٍ قادر وموثوق في مرحلةٍ تحتاج فيها إلى توزيع أعبائها العالمية. وبين هذَين الهدفين، يُمكِنُ للتحالف أن يزدادَ قوةً أو يدخلَ مرحلةَ اختباراتٍ جديدة.
في النهاية، تُعدّ زيارة الأمير محمد بن سلمان لواشنطن اختبارًا لمدى قدرة الطرفين على إعادة صياغة تحالفهما بما يتلاءَمُ مع عالمٍ يتغيَّر بسرعة، ويحتاجُ إلى ترتيباتٍ استراتيجية جديدة تتجاوزُ الماضي ولا تتجاهله. وإذا تمكّنَ الطرفان من التأسيس لشراكةٍ سياسية–اقتصادية–أمنية بنَفَسٍ طويل، فقد يكونُ لهذه الزيارة أثرٌ يتجاوز اللحظة الراهنة ليؤثِّر في شكل النظام الإقليمي لعقودٍ مقبلة.
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على: @GabyTabarani



