هل يَقودُ تَراجُعُ الدولار إلى أزمةٍ مَعيشِيَّة في الخليج؟

كابي طبراني*

مع استمرارِ تراجُعِ الدولار الأميركي بشكلٍ مُطَّرِد ـوهو اتجاهٌ من المتوقّع أن يستمرَّ حتى نهاية العام 2025ـ فإنَّ مصيرَ اقتصاداتِ دول مجلس التعاون الخليجي مُعلَّقٌ على ميزانٍ دقيق. فرَبطُ عُملاتها الثابت بالدولار الأميركي يُوفّرُ لها الاستقرار، ولكن في عالمٍ أصبحت فيه العملة الأميركية أكثر ضعفًا، يخفي هذا الاستقرار في طيّاته هشاشةً متنامية.

لقد تراجعَ الدولار بشكل ملحوظ في الأشهر الأخيرة، حيث يتم تداوله الآن عند نحو 1.17 دولار لليورو، مُسَجّلًا أدنى مستوى له منذ أربع سنوات، وانخفاضًا بنسبة 11% منذ بداية العام. كما ضعفت العملة الأميركية بنسبة 7% مقابل الجنيه الإسترليني وبنحو 6% مقابل الين الياباني. ويتوقع محللو بنك “يو بي أس” (UBS)  مزيدًا من الانخفاض، قد يصل إلى 1.20 دولار لليورو بحلول أيلول (سبتمبر) و1.23 دولار بحلول كانون الأول (ديسمبر)، مع تزايد رهانات الأسواق على خفض مجلس الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة، خصوصًا إذا جاءت بيانات التوظيف الأميركية ضعيفة.

بالنسبة إلى دول الخليج، فإنَّ المشكلة هيكلية. باستثناء الكويت، التي يرتبط دينارها بسلّةٍ من العملات، فإنَّ بقية دول مجلس التعاون مرتبطة بشكلٍ كامل بالدولار. وهذا يعني أنَّ السياسة النقدية يتم استيرادها إلى حدٍّ كبير من واشنطن، بغضِّ النظر عن احتياجات الاقتصاد المحلي. فعندما يُخفّضُ الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة، تضطرُّ البنوك المركزية الخليجية إلى أن تحذو حذوه، حتى لو أشارت دورات الائتمان المزدهرة أو الضغوط التضخمية إلى خلافِ ذلك.

العواقب تتبايَن، إذ يخلق هذا الأمر فائزين وخاسرين في المشهد الاقتصادي الخليجي. فمن جهة، يُشكّل ضعف الدولار مكسبًا غير مُتَوَقَّع لقطاعاتٍ مثل السياحة والعقارات. إذ يجد الزوّار الآتون من منطقة اليورو أو المملكة المتحدة فجأةً أنَّ فنادق دبي، ومراكز التسوُّق في أبوظبي، ومنتجعات قطر أصبحت في متناول اليد وأكثر مُلاءمة من حيث الأسعار. وبالمثل، فإنَّ تراجُعَ العملة يجعلُ العقارات في الخليج أرخص للمستثمرين الذين يمتلكون ثرواتٍ مُقوَّمة بعملاتٍ أقوى، مما يعزّزُ الطلب في سوقٍ عقارية مزدهرة أصلًا. أما بالنسبة إلى الحكومات، فإنَّ انخفاضَ أسعار الفائدة يُقلّلُ أيضًا من تكاليف الاقتراض. فالمملكة العربية السعودية، التي تحتاجُ إلى التمويل الخارجي بكثافة لدعم برامج “رؤية 2030” الطموحة، تستفيدُ من انخفاضِ تكلفة الدين، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الشركات العقارية الكبرى ذات الاحتياجات التمويلية الكبيرة.

ومن جهةٍ أُخرى، يؤدّي انخفاضُ قيمة الدولار إلى استيرادِ التضخُّم إلى اقتصادات الخليج. فالإمارات العربية المتحدة تستوردُ أكثر من نصفِ وارداتها من آسيا وحوالي خمسها من أوروبا. ومع ارتفاعِ  قيمةِ كلٍّ من اليورو والين واليوان، تصبح السلع الاستهلاكية من الإلكترونيات إلى الأدوية إلى السيارات أكثر تكلفة. كما إنَّ التعليم في الخارج والسفر ـوهما من أساسيات حياة العديد من الأُسَر الخليجيةـ يستهلكان حصّة أكبر من ميزانيات الأسر. أما العمالة الوافدة التي تُرسِلُ الأموالَ إلى بلدانها، فتشعُرُ بالضرر مع تراجُعِ قيمة تحويلاتها أمام عملاتٍ أقوى. وبالنسبة إلى الأُسَرِ ذات الدخل المُنخفض والمتوسّط، فإنَّ الأثرَ مباشر وفوري وملموس، بينما بالنسبة إلى الحكومات، فإنه قد يثير استياءً شعبيًا إذا ارتفع التضخم بشكلٍ ملحوظ.

هذه القوى المُتناقضة تضعُ صنّاع السياسات في الخليج أمام مأزقٍ صعب. لطالما كان ربطُ العملات الخليجية بالدولار لفترةٍ طويلة حجرَ الزاوية في الاستقرار الاقتصادي، إذ يُرسّخُ توقعات التضخم ويُعزّزُ ثقة المستثمرين. لكن مع استمرارِ تآكل قيمة الدولار، أصبح هذا الربط يُشبهُ بشكلٍ متزايد عبئًا وعائقًا أكثر منه ضمانة. فقد كانَ هذا الترتيبُ يُوَفّرُ في السابق حمايةً ضد تقلبات عملات الأسواق الناشئة، مما جعل الأسهم والسندات الخليجية أكثر جاذبية بشكلٍ خاص. أما اليوم، فقد ضعفت تلك الحجّة، إذ لم يَعُد المستثمرون الباحثون عن الملاذات الآمنة ينجذبون كثيرًا إلى منطقةٍ مُرتبطة ومُقَيَّدة بعملةٍ في حالةِ تراجُع، لا سيما في ظلِّ تعافي عملات الأسواق الناشئة في أماكن أخرى. ورُغمَ أنَّ قراراتَ الاستثمار الأجنبي المباشر طويلة الأمد ـمثل إنشاء مصانع أو مشاريع طاقة مُتجدّدةـ تعتمد على تكلفة العمالة والقوانين والبنية التحتية أكثر من اعتمادها على تقلّبات العملات، إلّا أنَّ جاذبية الأسهم الخليجية في المدى القصير تتعرّضُ للانحسار والتراجع.

كما إن ضعفَ الدولار يُعيدُ تشكيلَ تدفُّقات رأس المال العالمية بطُرُقٍ ينعكس صداها في الخليج. ففي الفترة بين 2020 و2025، شهدت الولايات المتحدة أداءً قويًا للأصول جذب تدفّقات صافية هائلة من رؤوس الأموال الأجنبية. وقد تُرِكَ جُزءٌ كبير من هذه الاستثمارات بدون تحوُّط، ما جعل المستثمرين عُرضةً بشكلٍ كبير لتقلُّبات الدولار. والآن، مع تذبذب الدولار، يُسارِعُ هؤلاء المستثمرون أنفسهم إلى تحوُّطِ مراكزهم، مما يُقلّلُ الطلبَ على العملة الأميركية ويُطيلُ أمدَ تراجعها وانخفاضها. ويُقدّر بنك “يو بي أس” أنَّ أكثر من تريليون دولار من أصولِ محفظةٍ أميركية مملوكة لأجانب قد تخضع للتحوُّط مستقبلًا، ما يعني استمرار الضغوط النزولية على الدولار. وهذا يزيدُ من حالة عدم اليقين بالنسبة إلى منطقة الخليج، التي ترتبطُ ثرواتها بشكلٍ وثيق بأداء العملة الأميركية.

بالنسبة إلى صنّاع السياسات في الخليج، يدعو هذا الظرف الراهن إلى تفكيرٍ استراتيجي. فهل ينبغي للمنطقة الاستمرار في رَبطِ مصيرها بالدولار بدون مُساءلة وبدون تردّد؟ بدأت أصواتٌ بالفعل تتساءل عمّا إذا كانَ رَبطُ العملات، الذي كان في السابق رمزًا للقوة، أصبح يُقيّدُ دول الخليج الآن بعملةٍ متراجعة. قد يكون ضعفُ الدولار، الذي يُعزّزُ السياحة ولكنه يرفع فواتير الاستيراد، مقبولًا لفترةٍ من الوقت، ولكن إذا تسارَعَ التضخّم بشكلٍ حاد، فإنَّ التكلفة السياسية لارتفاعِ الأسعار المُستَورَد قد تفوق الفوائد. وإذا استمرَّ الدولار في الهبوط بعد العام 2025، فقد يتزايدُ الضغطُ لإعادةِ النظر في ربط العملات. يُقدّمُ النموذج الكويتي القائم على الربط بسلة عملات أحد الخيارات البديلة، لكن أي إعادة تقييم تتطلّبُ تنسيقًا حذرًا بين دول مجلس التعاون لتفادي التشرذم المالي.

ومع ذلك، هناكَ فُرَصُ سانحة وسط هذه الضبابية وعدم اليقين. يُمكنُ لدول الخليج أن تستفيدَ من تحسُّنِ قدرتها التنافسية في جذب السياح الأوروبيين والآسيويين، كما يمكنها استغلال انخفاض تكاليف الاقتراض لتمويل مشاريع البنية التحتية الحيوية. وتستطيع الحكومات أيضًا تشجيع الشركات المحلية على تبنّي استراتيجيات تحوُّط للتخفيف من ارتفاع تكاليف الواردات. وعلى نطاقٍ أوسع، يؤكد تذبذب الدولار وتقلُّبه الحاجة المُلحّة إلى تنويعِ اقتصادات الخليج بعيدًا من الاعتماد على الهيدروكربونات، والتوجُّه نحو الصناعات المعرفية واللوجستية والتكنولوجية الأقل تعرُّضًا لصدمات العملات. وبذلك يمكن للمنطقة أن تُعزّزَ مرونتها وقدرتها على الصمود ومواجهة تقلبات النظام المالي العالمي.

في النهاية، يُعَدُّ ضعفُ الدولار نعمةً واختبارًا في آنٍ واحد لدول الخليج. فهو يمنحُ ديونًا أقل تكلفة ويُتيحُ سياحةً مزدهرة، لكنه يُهدّدُ أيضًا باستيرادِ التضخُّم وتآكل جاذبية أسواقها المالية. إنَّ ربطَ العملة، الذي اعتُبر طويلًا مرساةً للاستقرار، يتطلّبُ الآن إعادةَ تقييم. فالتشبُّث والالتزام الأعمى به قد يكونُ مُكلفًا إذا واصلت الظروف العالمية تحرّكها وتحوُّلها ضد الدولار. والقرارُ الذي ستتخذه دول الخليج الآن ـبين إعادة المُعايرة أو الاستمرار في النهج الحالي ـ سيُشَكِّلُ ويُحدّدُ مسارها الاقتصادي لسنواتٍ مُقبلة.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على:  @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى