عدنان حيدر: الزجل اللبناني يتخرَّج من كمبردج

هنري زغيب*

منذ أَعلَنَتْ منظَّمةُ اليونسكو قبل 11 سنة (في جلستها العامة: باريس 9/10-25، الخميس 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2014) عن إِدراج الزجل اللبناني على “لائحة اليونسكو للتراث البشَري العالَمي غير المادّيّ” إِقرارًا بــ”أَهميته الثقافية، وبدوره في تعزيز التماسُك الاجتماعي في لبنان، كونه من أَشكال الشعر الشعبي الشفَهي والمغنَّى، ويعْكِسُ جزءًا مهمًّا من التراث اللبناني”، أَخذَ زَجَلُنا الفريدُ طريقَه الأَوسع إِلى العالَمية، وأَصبح موضوعَ دراسات أَكاديمية معمَّقة.

طويلًا قبلذاك، كان العلَّامة اللبناني الدكتور عدنان حيدر (من “جامعة أَركنْصَا” الأَميركية) بدأَ يعمل على دراسة أَكاديميَّة مُفَصَّلة مدقِّقَة نظريًّا وميدانيًّا عن الزجل اللبناني بجميع أَنواعه وتجلِّياته الشفهية النادرة في هذا الشرق. وبعد سنواتٍ طويلةٍ من الدراسة والتحليل النصِّي والسَمعي، أَصدَرَ قبل أَيام كتابه المرجعيَّ بالإِنكليزية “كلماتٌ جديدةٌ لأَنغامٍ قديمة – الزجل اللبناني: أَنواعه وأَوزانه”، لدى منشورات Open Book، وهي فرع من منشورات جامعة كمبردج (إِنكلترا).

الكتاب من 206 صفحات حجمًا وسَطًا، أَنيقُ الطباعة، دقيقُها، غلافُه لوحة لمصطفى فرُّوخ من 1938 (“قرية كسروانية”، ترجيحًا غزير)، والإِهداء “إِلى Paula” (حبيبته ورفيقة عمره زوجةً ومترجِمةً حتى اليوم 16 روايةً لبنانيةً إِلى الإِنكليزية).

مقدمة الكتاب للمؤَلف، تتصدَّرها عبارة من سعيد عقل (وكان عدنان حيدر ترجم له إِلى الإِنكليزية مجموعةً من قصائده وخماسياته) جاء فيها: “الزجلُ لِلُبنان ما الأَهرامُ لمصر، واللوفر لفرنسا، وتاج محل للهند”. وروى في مقدمته اكتشافَهَ الزجل سنة 1958 في مطلع صباه من سهرة زجلية في بلدة مجاورةٍ بلدتَهُ أَميون (الكورة)، ثم راح يأْنَس إِليه ويطالع عنه ويكتُب فيه، مقارنًا بينه وبين الشعر الشفهي في سائر الدول العربية، مُطْلعًا ما في زجلنا اللبناني من فرادة وعبقرية.

كثيرة هي مميِّزات هذا الكتاب الطالع من أَبحاث عدنان حيدر المقارِنة والمعمَّقة. منها أَنَّ فيه تطبيق شيفرة “الجواب السريع” (QR) أو هذا الرابط https://www.openbookpublishers.com/books/10.11647/obp.0424 لقراءة الكتاب كاملًا أَو للاستماع إِلى الاستشهاد السمْعي الصوتي (AudioMetric) عند أَيِّ مقطع أَو نوع من أَنواع الزجل المكتوب نصُّه في أَيِّ صفحةٍ من الكتاب. وهذه ظاهرة جديدة طليعية فريدة في عالَم النشْر يتفرَّد بها هذا الكتاب.  من هنا إِشارة المؤَلِّف، في فهرسٍ خاصٍّ من أَول الكتاب، إِلى الاستشهادات الصوتية الأَصلية المسجَّلة بآلة التسجيل الموسيقي (Musical Chronometer) من أَنواع الزجل: المعنَّى، القرَّادي، الميجانا، العتابا، القصيد، الحدا، الندْب، الزلْغَطَة، أَبو الزلف، الشروقي، المخمَّس مردود، وسواها.

وفي بادرة أَكاديميةٍ ضرورية من المؤلِّف المتمرِّس في الأَدب المقارن، خصَّص فصلًا من كتابه للمقارنة بين أَوزان الزجل وبُحُور العروض العربي. وفي فصل آخر فصَّل دقيقًا أَنواعَ الزجل الرئيسة (القرَّادي والميجانا وسواهما) مع نوتاتها الموسيقية المنقولة دقيقةً إِلى صفحات الكتاب (تمامًا كتفصيل التوزيع الموسيقي للنوتات أَمام أَعضاء الأُوركسترا لعزفها بدقَّة احترافية). وكلُّ مجموعة نوتات مُرْفَقَة بمربَّع علامة “الجواب السريع” (QR)  لسَماع النوتات في المقطع المنشور مع كلماته.

ويخْلُص المؤَلف إِلى أَنَّ “الزجل اللبناني شاهدٌ على عظمة الشعر الشفهي”، وهو “تقليدٌ حيٌّ يصِلُ الماضي بالحاضر، جامعًا الأَحياء والمناطق اللبنانية معًا في لغة مشترَكة وموسيقى مأْلوفة، بأَصوات شعراء خلَّاقين ما زالوا يُغْنُون التراث اللبناني الحي ويُغَنُّونه. ورسالةُ هذا الكتاب أَن تحفِّزَ دراساتٍ مقْبلَةً أُخرى على اكتشاف عبقرية الزجل اللبناني ومكانته في عالَم الشعر الشفهي”.

تُحَفِّز، نعم. وكتاب عدنان حيدر فجرٌ جديدٌ عالَميًّا لهذا الفن العبقريِّ عندنا، يَجْدُر بالمسؤُولين والمعنيين أَن يتلقَّفوه خُبْزًا ضروريًّا لكل غذاءٍ آتٍ للإِضاءة على زجَلنا اللبناني الذي عَمَّمَتْهُ منظمة اليونسكو، وجاء عدنان حيدر ليُطْلِعَه من جامعة كمبردج العالَمية تراثًا من لبنان يُشرق نبْضُهُ الإِبداعيّ على كل العالَم.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى