ماذا خَسِرَت إسرائيل في سيدني؟

محمّد قوَّاص*

كانَ يُفتَرَضُ بإسرائيل أن تَحصدَ من اعتداءات سيدني ثمارًا لصالح سردياتها المُعتادة. سعت حكومة بنيامين نتنياهو إلى الاستثمار في فاجعةٍ يهودية لترفد حجتها وتُرمّم ما تصدَّع في روايتها. لكنَّ الرياحَ جاءت بغير ذلك. بدا الخطابُ الإسرائيلي التقليدي مُتقادِمًا، ولم يَعُد ناجعًا استدعاء المظلومية التاريخية و”معاداة السامية” كسيفٍ مُصَلَّتٍ ضد المُتَجَرِّئين على انتقادِ إسرائيل أو المُشَكِّكين في سياساتها. أظهرَ الحدثُ صعوبةَ تسويقِ سرديةٍ في مرحلةٍ تَغَيَّرَ فيها المزاجُ الغربي العام تجاه القضية الفلسطينية بعد حربٍ لم تنتهِ في غزّة.

تُقدِّمُ إسرائيل نزاعها مع العالم بصفته أخلاقيًا تتمُّ مقاربته بالحجج التاريخية والدفوع العاطفية، مُستندةً إلى ذاكرة “المحرقة” ال”هولوكوست”. ربطَ نتنياهو الاعتداءَ بالاحتجاجات المُناهِضة للحرب على غزة التي شهدتها أوستراليا. سهُل استنتاج أنَّ هذا الربط يأتي في سياق النيل من قرارٍ أوسترالي غير مُنسَجِم مع السياسات الإسرائيلية. كانت أوستراليا اعترفت بالدولة الفلسطينية، وسمحت بقيام مظاهراتٍ واسعة دعمًا لغزة. وبدا في تصريحات نتنياهو وصحبه عن “معاداة السامية” في أوستراليا مناسبة لتصفية حسابٍ قديم.

لاحظ مراقبون أنَّ عنوانَ “معاداة السامية” فَقَدَ زخمه في الخطاب الإسرائيلي، وتراجعَ نجاحُ تسويقه لدى المجتمعات الغربية. اكتفت الصحافة الغربية، التي كانت تتبرَّع تاريخيًا بإدانةِ أيِّ اعتداءٍ على اليهود بصفته “مُعاداةً للسامية”، بتوصيف الهجوم كإرهابي عام، بدون تبنّي الرواية الإسرائيلية أو ربطها بالقضية الفلسطينية. استاءت عواصم غربية من ربط إسرائيل للعملية باعتراف أوستراليا بدولة فلسطين، مُعتبرةً ذلك انتقادًا مُبطَّنًا للدول الأخرى التي اتخذت خطواتٍ مُشابهة.

كما أثارت تقاريرٌ عن تحضيراتٍ إسرائيلية للردِّ على الهجوم مخاوفَ من تدخُّلٍ في شؤون أوستراليا، التي هي وحدها المُخَوَّلة باتخاذ الإجراءات لحماية مواطنيها. لم تجد الصحافة الغربية رابطًا بين عملية سيدني والحرب في غزة، ولم تُشِر التحقيقات إلى مسؤولية لفلسطين وقضيتها في عملٍ ما زالَ خارج هذا السياق.

تعرف إسرائيل أنَّ هذا ليس خبرًا سارًا. فغموضُ دوافع المُنفِّذين، وعدم وجود رابط مع القضية الفلسطينية، جعلَ العملية تُصَنَّفُ كإرهابٍ معزول. حتى أنَّ العلاقةَ المُفتَرَضة للمُنفِّذين مع “داعش” تُفَرِّغُ الحدث من صداه الفلسطيني الذي لم يلقَ لدى التنظيم الإرهابي أية أولوية في أنشطته.

سقطَ الاستثمارُ الإسرائيلي وأطاحه نهائيًا تدخُّل المواطن الأوسترالي المسلم أحمد الأحمد، المُنحَدِر من سوريا، ومن إدلب بالذات، مُتَصَدِّيًا لأحد المهاجمين. قدمت ظاهرة أحمد الأحمد روايةً مُضادة للرواية الإسرائيلية. وما قدّمه الإعلام الغربي عن هذا “البطل” ليس قصة وحيدة معزولة في تاريخ الإرهاب في السنوات الأخيرة. سبق لمسلمين أن كانوا ضحايا إرهاب في أوروبا، وظهرت قصصٌ مُشابِهة في فرنسا وبريطانيا وألمانيا وغيرها لمسلمين يتصدّون لذلك الإرهاب.

لكن اللافت أنَّ الحكومة الأوسترالية اليسارية بقيادة أنتوني ألبانيز تحصّنت وراء “البطل” لرَدِّ حملات المعارضة ضدها، فيما أصاب “ترند” الشاب المسلم بحرج كل خطاب التيارات الشعبوية واليمين المتطرّف في العالم ضد الهجرة والمهاجرين.

لم تستطع إسرائيل الاستفادة من حدث سيدني لإثراء أدواتٍ “مظلومية” أبدية. لم تنل هجمات سيدني من التأييد العام للقضية الفلسطينية، ولم ترفع الهجمات من زخم تضامن مع إسرائيل تراجع في الأشهر الأخيرة. يُعبِّرُ الأمرُ عن تحوُّلات الرأي العام الغربي بعد “طوفان الأقصى”، لجهة فقدان إسرائيل احتكار امتهان صفة الضحية.

كانت التقارير الأممية بشأن حرب غزّة أسقطت هاجس الإبادة المرتبط بال”هولوكوست”، وكانت أصواتٌ يهودية أبدت قلقًا من تشوية ذاكرة ال”هولوكست” باستخدام إسرائيل المُفرِط لعناوين “مُعاداة السامية”. خسرت إسرائيل رهانها في غزة، ما يوحي بأعراض نهاية رواية وحاجة إسرائيل لاختراع رواية تتَّسِق مع “سوق” تفقدها.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى