الآخَر في كُتُب التعليم الديني

هنري زغيب*

منذ أَطلقَ الكاتبُ اللبنانيُّ فؤَاد حداد (“أَبو الحنّ”) مقولتَهُ الشهيرة “لبنانُ مساحةٌ روحية”، ولاقتْها عبارةُ البابا القديس يوحنا بولس الثاني: “لبنان أَوسعُ من وطن. إِنه رسالة… رسالةُ حريةٍ ونموذجٌ في التعدُّديّة للشرق والغرب معًا”، يتركَّز لبنان أَكثر فأَكثر في التاريخ، أَعلى شأْنًا حضاريًّا من مجرَّد دولةٍ في محيط، وبقعةِ جغرافيا وحفْنةِ ديموغرافيا.

ولهذه الظاهرة/الرسالة، شأْوٌ رئيسٌ في الأَبحاث الجيوسياسية والدراسات الأَكاديمية. بين أَحدثِ ما وصلَني منها: كتابُ الدكتورة نبيلة نور الدين بَلْطَجي السمَّاك “الآخَر في كتُب التعليم الديني – لبنان نموذجًا”، الصادر في منشورات “دار المقاصد للتأْليف والنشْر”- بيروت، في 308 صفحات حجمًا كبيرًا. وهو أَساسًا دراسةٌ بحثية توثيقية بعنوان “الإِيمان والأُخُوَّة الإِنسانية في كُتُب التعليم الديني في لبنان”، أَشرفَ عليها الدكتور أَنطوان مسرَّة، رئيسُ كرسي الأُونسكو في جامعة القديس يوسف.

نحن إِذًا أَمام نصٍّ/ثقة، لكاتبةٍ/ثقة، من مرجع/ثقة. وهو عمَلٌ أَوجزَ قيمتَهُ الدكتور مسَرَّة في تقديمه للكتاب بأَنَّ “جُهد الدكتورة المؤَلِّفة يُثير الإِعجاب، لا لاعتباراتٍ علْمية تجريدية، بل لأَنه بالغُ الضَرورة والفائدة حيالَ التحوُّلات في عالَم اليوم”.

فعلًا، هو “بالغ الضرورة”. يُكمل الجهود الهرقلية التي يبذلُها المعنيون المخْلصون لجعل لبنان يتعانق بأَبنائه هلالًا وصليبًا، قرآنًا وإِنجيلًا، على تراب أَقدسٍ يشهدُ التاريخ له بخُلودٍ ساطع لا يشبهُه سوى خلودِ الأَرز على جبينه العالي.

أَصابَت الكاتبةُ الرصينةُ القلمِ والتوجُّهِ في طرحها مقارناتٍ بين كُتُب التعليم الديني بِموادِّها الـمُدَرَّسَة في كامل لبنان، لتَبَيُّنِ مواقع إِشعاعاتها الانفتاحية ومواقع انغلاقاتها، بُلُوغًا إِلى أَدبيات دينية جديدة تُصوِّب مسيرة التعليم الديني فيغدو أَساسًا لتربية وطنية ينمو منها جيلُنا اللبناني الجديد على قواعد التعدُّد (بمواجهة التعصُّب) والاختلاف (بمواجهة الخلاف) وإِرساءِ وحدةٍ وطنية لبنانية جامعة (بمواجهة تَزَمُّتٍ دينيٍّ يَنخُرُ مفاصلَ البلاد).

بين علامات الدراسة، انطلاقُها من نقطتَين: أَنَّ “الآخَرَ المختلِف في المجتمع اللبناني” ليسَ موجودًا في كتُب التعليم الديني، وأَنَّ تلك الكتُب تركِّز على القضايا العقائدية في إِطار الإِيمان الديني حصرًا، دون ربْطه بالعلاقات الإِنسانية التي توطِّد الروابط الوطنية بين اللبنانيين على اختلاف أَديانهم ومذاهبهم وطوائفهم، مع أَن مجتمعَنا، بطبيعته، متعدِّد. وهذه خصيصَتُه بين دُوَل المحيط.

بهذه المسيرة المتنوِّرة عالَجت المؤَلفة فصولَ دراستها، بادئةً من فَرَضية التعليم الديني في المجتمع المتعدِّد، وتداعيات هذه الفرضية في المسيحية والإِسلام. وانطلاقًا من أَهمية التعليم الديني في المجتمع اللبناني، استطردَت إِلى كتُب التربية الدينية الإِسلامية لدى نماذج ميدانية من مؤَسساتها التربوية، فكتُب التربية الدينية المسيحية لدى نماذج مماثلة من مؤَسساتها التربوية.

وتخلَّلَت الفصولَ حواصلُ وأَرقامٌ ومقارباتٌ تجعل الدراسةَ علميةً عاليةَ القيمة التربوية والمستوى الأَكاديمي، بلوغًا إِلى عُمق الإِيمان جامعًا لا مُفَرِّقًا، ومُرَقِّيًا لا مُحرِّضًا، معتمدةً على أُسُس النظرتَين الاستشراقية والعلاجية معًا، ومنهما الشمولُ الراقي لضرورة تطوير المناهج على الأُسس المذكورة في هذه الدراسة الراقية. ويزيد من صدْقية هذا العمل عددٌ محترمٌ جليلٌ من اللقاءات مع مراجعَ دينيةٍ ومذهبيةٍ من لبنان وسوريا ومصر، جالَ أَصحابُها في هذا الموضوع متنوِّرين منفتِحين مُرشِدين.

وإِذ ختامُ الدراسةِ بنقاطٍ رئيسةٍ، بينها تطلُّعات دار الفتوى والرئيس البروفسور سليم دكاش، يَخلُصُ الكتاب إِلى واحة فكرية سبقَ أَن أَسَّسها عميقةً، وما زال يعملُ لها، اللبنانيُّ الكبير محمد السمَّاك الأَمين العام لِلَجنة الحوار الإِسلامي المسيحي.

في مسيرة لبنان المتصالح بعبقريته الفريدة، يتصدَّرُ كتاب الدكتور نبيلة السمَّاك طليعةَ المراجع الضرورية، لاستبيان أُسُسٍ يقوم عليها لبنان في انطلاقته الراهنة التي تُعيده، كما دومًا كان، هذه اللؤْلؤَةَ الفريدةَ على خصر المتوسط.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى