وردةُ الصباح إِلى ورود صباح
هنري زغيب*
من أَبلغِ ما يُعطاه الغائب، أَن يكونَ له مَن يَلمُّ وروده النابضة على أَيامه بيننا، فيجمعها له بعد غيابه في مزهرية صفحاتٍ تبقيه معنا ولو من خلف الغياب.
وهو هذا ما جرى مع المحامي صباح مطر الذي كان في حياته نثر وُرُودًا من الكلمات، شعرِها والنثر، محكيِّها والفصيح، رسائلَ وصوَرًا تذكارية، فجمَعَها لهُ، وفاءً واستذكارًا، تبويبًا وتعليقًا، شقيقُه الصديق سهيل مطر وضمَّها، مع الذكرى السنوية الأُولى لغيابه في تموز الماضي، إِلى دفَّتَي كتاب أَنيق أَصدره قبل أَيامٍ لدى منشورات “منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحادة الثقافي” في 296 صفحة حجمًا وسَطًا مع غلافٍ فنيٍّ أنيقٍ من رَواد سُهَيل مطر.
عرفتُ صباح لُمامًا، في مناسبات غالبًا ما كان يحضرها حين يشارك فيها الحبيب سهيل شقيقه ذو القلم الزنبقيّ. لكنني ما كنتُ مدركًا أَنَّ له، هو الآخر، قلمًا يخاصر مطالعات المحامي في نضارةِ بثٍّ وجمالِ تعبير.
وأَحسنَ سهيل تبويبَ الكتاب بِما يُظهر وجهَ صَبَاح الصَبُوح، منذ ولادته في حضْن تنورين سنة 1945 إِلى رقاده الأَخير في حضن تنورين سنة 2024، مُرورًا بِمراحل حياةٍ من الطفولة إلى الصبا فالشباب فالمحاماة ونجاحاتها ومسؤُولياته فيها.
أَفتح الكتاب، فتهَفُّ عليَّ أَوراقُ الورد. هنا قصيدة بالمحكية: “الصيف شمعاتو انطفو.. شدّ الرحال وفَلّ.. حامل معو زوادتو.. إيام ما بتِنْملّ”. وهنا قصيدة بالفصحى: “يا وردة ربيتُها ووهبتها من عمق خَلدي قوة الإِخلادِ… أَبكي لأَني عاجزٌ عن وصفِ مَن سجد الجمالُ لها برهبة عابدِ”. وهنا خاطرة نثرية: “أَيها المصلوب، هوذا قلبي مفتوحٌ أمامك، اجعل طريقي مكتنَفًا بالأَزاهير والعسجد، فإذا مررتُ به يكون كجبل التجلِّي لا كجبل الجلجلة”. وهنا دراسةٌ تحليلية لشعر نازك الملائكة أَقرَّ فيها: “ليس للشاعر الحديث أَن يختلقَ لذاته قواعد جديدةً للأَدب واللغة. رسالةُ الشاعر الحديث أَن يسهِّل لا أن يعقِّد”. وفي رسالة مؤَثرة إلى زوجته هِلِن كتب: “ثلاثون مضت وأنا أعيد قراءة الماضي بالعقل والقلب، كي أَكتب أَيامي الآتية بما بقي من دمٍ في شراييني الموجوعة”. وفي رسالة إِليه من شقيقه سهيل جاء: “إليكَ هذه المرحبا التنورية تحمل لك كل ما في ذاتي من حب وحنان نحوك، وأنت لستَ معي، وتحمل إليك رفَّةً من ربيع تنورين الزاهر الأَبيض، وزقزقة من العصافير التنورية الحالمة،ـ ورضا من مسيح تنورين المصلوب في الكنيسة”. وقبيل رحيله الموجع كتب صباح: “لملمت جميع أوراقي.. رأسي يعانق التراب.. على رصيف السفر الطويل جلست فوق حقيبتي الصغيرة.. قريبًا يصلُ قطار المسافات البعيدة وأَرحل، حاملًا معي ذكرياتي لأني سأكون وحيدًا بدون الذكريات”.
ويغيب صباح فيتلقى غيابَه رفيق حياته شقيقُه سهيل وجعًا حتى الفجيعة: “يوم توفي والدي فقدتُ أَعمدةً ومَساند. ويوم سقطت أختاي ليلى وضياء على الطريق أضعت فرحي وعينبي، ويوم رحلت لينا حبيبتي الحلوة انشقَّ حجاب روحي. واليوم برحيلك يا صباح انكسر جناحي الوحيد، فكيف أَحيا بدون جناح”… وختام الكتاب باقة صوَر لصباح تنضح بالذكريات، ينفطر لها القلب من شعَّات فرح في أصوات العيون لم تبقَ منها سوى لُمَحٍ من الأَصداء الحافية في نبض الغياب.
أُكرر ما به بدأْتُ كلامي: مِن أَبلغِ ما يُعطاه الغائب، أَن يكونَ له مَن يَلمُّ ورودَه النابضة على أَيامه بيننا، فيجمعُها له بعد غيابه في مزهرية صفحاتٍ تُبقيه معنا ولو من خلف الغياب. وها هو الحبيب سهيل جمع ما تركه شقيقُه صباح من ورود، وقدَّمها مزهريةً في كتاب، في كلِّ صفحة منه وردةٌ صباحية تُحيِّي وُرود صباح، فتجعلُ من غيابه عنا حضورًا بيننا لا إِلى غياب.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib