ريشةٌ تُبدعُ بين الذَهَب والفضة

هنري زغيب*
منذ نشْأَة بْرادْ رُوبِنْ كانْكِلْ في لِيْهايْتُون (شمالي شرقي بنسيلفانيا) وفيها وُلِد سنة 1978، وعى على طبيعة جميلة هادئة هانئة حوله. نال شهادته في الرسم سنة 2001 لدى كلية الفنون في جامعة كاتْزْتاوْن. بدأَ يَرسُم ويعرِض لوحاته في معارض جماعية. وجاء نفادُ جميع لوحات معرضه الفردي ليلة افتتاحه في نيويورك سنة 2010، ليجعل له اسمًا على مستوى دُوليّ، خصوصًا باستعماله أَوراقَ الشجر الذهبية والفضّية في أَعماله التي طبعت له شهرةً سريعةً في الفن التشكيلي المعاصر .
هنا لمحة عن هذا الفنان المتفرِّد.

استهام ورق الشجر في الغابة
ينطلق براد في أُسلوبه من عقيدة ورثَها عن أَجيال سابقة وحدسٍ ثاقب وطاقاتٍ أُنثَويَّةٍ بحثًا عن تنويرٍ من التكامل في عناصر الطبيعة. تتوزَّع أَعمالُهُ اليوم لدى المجموعات الخاصة في مختلف أَنحاء العالَم، ويختص بمعظمها المتحف الجديد في مدينة سالِم (نورث كارولاينا)، كما في كبسولة رقمية إِلكترونية في القمر جزءًا من فضاءٍ تعاوُنًا مع برنامج وكالة ناسا الفضائية.
بداياتُهُ تميَّزت بما اختزنه من مشاهد فريدة ومناظر جميلة في الغابات الخضراء حول منزله. ومنذ مطالع أَعماله تأَثَّر بأَعمال الرسام الأَميركي الشهير ماكسْفيلْد باريش (1870-1966)، وبالأَعمالِ السابقةِ المرحلةَ الرافائيلية (النصف الآخَر من القرن التاسع عشَر)، لأَنَّ فيها، كما عبَّر بْرادْ “جمالَ تعبير مستَتِرٍ خلف نهود المرأَة، حيثُ ينتظرُنا ما هو أَبعدُ من رؤْيتنا المجَرَّدَة كي نُظْهِرَهُ”.

تجاوُز الأُصول الأَكاديمية
صحيح أَنَّ بْراد تَشبَّع من الأُصول الأَكاديمية في الرسم، لكنه شاء أَن يشتقَّ لفنِّه أُسلوبًا خاصًّا، واثقًا من كون مواهبه ومهاراته ستُعينُهُ على تجاوُز الأُطر التقليدية في التيارات الفنية وحدودِها الجامدة. لذا عمَدَ بدايَةً إِلى رسمِ وجوهٍ تُطْلَبُ منه، فيما أَخذ يتلمَّس طريقه، طيلة نحو عشر سنوات، إِلى تجديدِه الشخصي واستقلاله بأُسلوبه وطريقته.
تركَّز بحثُهُ على نهجٍ غيرِ طبيعيٍّ تقليديٍّ، ولو مُستخدمًا له عناصر الطبيعة ذاتها. تأَثَّر في تلك الحقبة من مسيرته باستخدام اللون الرمادي ومشتقَّاته، على نهجِ كبار الرسامين الأُوروبيين، وبالصُوَر الفوتوغرافية القديمة ذات التظهير بأَدواتٍ فضية خاصة. من هنا قوله يومًا: “للَّون الرماديِّ ومشتقَّاته ميزةٌ سحريةٌ. سأُحاول الاستعانة به في شَقِّ طريقٍ لي وطريقة، حين أَرسُمُ مشهدًا أَو ثوبًا، كي تكونَ لوحتي مغايرَةً لمتلقِّيها أَو رائيها”.

البداية مع النحاسيّ
راح يُكمل بحثه من داخل الأُصول، وهو في منتصف عقده الثاني. بدأَ يستعمل اللون النحاسي على الجدران. ثم أَخَذَ ينحو صوب اللون الذهبي في لوحاته. وعندها بدأَ مسيرته صوب اللاطبيعيّ واللاتقليديّ في أَعماله ليتوجَّهَ إِلى ميوله الرومنطيقية في حضن الطبيعة وتقاليد طُقوسها وفصولها.
بعدها أَعلن بوُضوحٍ نتيجة ما اكتشَفَهُ وما تَوصَّل إِليه وهو استعمال الذهبيّ والفضيّ في لوحاتي أَفادني على مُستَوَيَيْن:
- تزاوج الفضي والذهبي
المستوى الأَول رمزيّ شخصي، والآخَر بتَزَاوُج الفضيّ والذهبيّ رمزًا لأَكثر من موضوع في الرسم، لأَنهما يُحيلانِ مادِّيًّا إِلى نقيض روحانية الحياة ولامادِّيِّتها. واستخدامُهُما لأَوراق الشجر ولون الفضاء وورق الجدران يعطي لمحةً عن ميلي الشخصي إِلى العالَم المتغيِّر الذي نعيش فيه ونشهَد تغَيُّراته. وفي تفصيلٍ آخَر: الذهبُ أَكثر العناصر جدَلًا في تاريخ البشرية. بسببه نشبَت حروبٌ وحَصَلَت وَفَياتٌ، وانهالت سعادة، وانبثق جمال، وهو رمزٌ بين الناس واضحٌ للحب والقوة والطمَع والدين. ورمزه طمَّاعٌ مطواع كما اقتناؤُه ماديًّا.
- الرائي ومراعاته
المستوى الآخر للأَوراق، أَن يتفاعل مباشرة مع الرائي. فبين أَن يكون عابرًا أَرض الغرفة، أَو مخفِّفًا نورَها، يتغيَّر منظرُ اللوحة وتتغير وظيفيَّتُها. من هنا تُصبح اللوحة حيةً نابضةً لرائيها، ولا تعود مجرَّدَ صورةٍ جامدةٍ على جدار. هكذا يصبحُ الفنُّ تفاعليًّا وذا وظيفةٍ تتعدَّى المأْلوف من معناها التقليدي. ومع استخدام الرمادي أَو مشتقَّاته في إِنهاء شكل الأَوراق، يعطي انطباعَ مدًى سورياليٍّ، وعمقًا خارج مأْلوف الطبيعي من اللوحات العادية.

في صندوقته… بيكاسو
الطريفُ في أَمر بْراد أَنه، في صندوقة أَلوانه، يضع دائمًا ورقةً عليها هذه العبارة من بيكاسو: “عليكَ أَن تعمَل لا بكامل أَفكارك بل بالأَقلَّ منها. فإِن كنتَ قادرًا على إِدراج ثلاثة عناصر من أَفكارك، استعمِل اثنين منها، أَو عشْرة فاستعمل خمسة فقط. عندئذ تتمكَّن من التعبير عن أَفكارك بسهولة أَكثر، وبراعة أَكثر، وتعطي انطباعًا كاملًا لمهاراتك الإِبداعية”.
وعلى هذه العبارة من بيكاسو يعلِّق بْراد: “أَرسُمُ كي أَتَّصل بطبيعتي البشرية، وأُوضح جمالَها الكامل وحقيقتَها العارية. فالطبيعةُ البشريةُ التي تبدو رومانسيةً، عليَّ أَن أُظهرَها واقعيةً وجميلةً في آن”.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.