قَدَرُ لُبنان في إرادة البقاء، لا الفَناء!

الدكتور فيكتور الزمتر*

من سِماتِ الروايات المُشَوِّقَة حذاقةُ الكاتب في حَبْك أحداثها بشكلٍ يُراكمُ فيها العُقَد، ما يخلقُ لدى عُشّاق القراءة أو المُشاهدة الولعَ بمعرفة خواتيمها. على هذا النحو، ينسحبُ تاريخُ لُبنان المُعاصرُ، المُشوِّقُ بتناسُل العُقَد والأزمات، مع فارقٍ أنَّ الروايةَ هي لإشباع الفُضول وللترويح عن النفس، بينما تاريخُ لبنان مُسلسلٌ طويلٌ، تغلبُ عليه السقطاتُ، المُتزاوجةُ مع المُعاناة الدامعة والدامية، والتي تتركُ اللُّبناني “.. يبكي، كالنساء، وطنًا مُضاعًا لم يبنه كالرجال”.

تعدَّدت الآراء حول مواطن الخلل في النظام السياسي اللُّبناني، وإنْ تراوحت بين العامل الطائفي والتدخُّل الخارجي. ومع ذلك، لا ضيرَ من المُكاشفة، براحة ضميرٍ، أنَّ العصبَ الطائفيَّ يُمثِّلُ علَّةَ لبنان الأساسيةَ في عدم استقراره. وهذا بالضبط ما ذهب إليه الأديب سليمان البستاني (1856-1925) الذي نُقِلَ عنه القولُ: “إنَّ التعصُّبَ الذميمَ هو الذي يدفعُك إلى كراهية أبناء جنسك، وهو الآفة الكبرى التي نخرت عظامَ البشر قرونًا طوالًا، وما زالت في الشرق علَّةُ العلل”.

العيبُ ليس في العصبية، التي هي ثابتةٌ في حياة الشعوب والأُمم؛ بل العيبُ في تجاوُز الإنتماء العصبي إلى كراهية الآخر، المُنتمي، بدوره، إلى عصبيةٍ مُغايرةٍ، طالما يستحيلُ انتماءُ جميع البشر إلى عصبيَّةٍ واحدةٍ. وعليه، يحسنُ بالمرء الوفي لعصبيته أن يتحلّى بفضيلة التسامُح، تجاه الآخر الوفي لعصبيته، من باب التماثُل في التعامُل.

إنَّ الديموقراطية التوافُقية، المُعتمدة في لبنان، هي أشبهُ بنموذج حُكمٍ لإدارة التبايُنات وتنسيق التمايُزات، في المُجتمعات غير المُتجانسة. فهذا النوع من الأنظمة، إنَّما هو انعكاسٌ للبُنية المُجتمعية المُتنوِّعة، والمُرتابة من بعضها البعض. فالحُكمُ من خلالها قائمٌ على تقاسم السلطة ومغانم الدولة، في دولةٍ تُعطي الأولويةَ لضمان حصص الطوائف والمذاهب، على حساب أولوية اللُّحمة الوطنية.

وإذا كانت هذه الصيغةُ ضروريةً، مرحليًا، لتوحيد مُكوِّنات المجتمع المُركَّب، فأَولى بالحكم الرشيد أنْ يتجاوزَ هذه الصيغةَ، بدفعٍ من النُخَب الرؤيوية، من طريق ترسيخ مفهوم المواطنة. إذ من خلال إرساء الإدارة المؤسّساتية الكفية والنزيهة، تَسهلُ مُهمَّةُ السهر على تنفيذ القانون على الجميع، بدون التماهي مع الزبائنية والمحسوبيات الطائفية أو الجهوية.

ومن مُفارقات تاريخ لبنان، اكتسابُ مُجتمعه حيثيَّةً سياسيةً، سابقةً على كيانه السياسي المُعترف به دوليًا. وقد حصلَ ذلك عبر تدرُّج إدارة الشأن العام، في المُجتمع اللُّبناني، من سلطة رجال الإقطاع إلى سُلطة الأمير، في زمن الإمارتَين المعنية (1544-1697) والشهابية (1697-1842) مُرورًا بعهد القائمقاميتَين (1842-1860) ثم المُتصرّفية (1861-1915) وُصولاً إلى إعلان دولة لبنان الكبير (1920).

وتخلَّلَ هذه الصيرورةَ السياسيةَ يَناعُ  بُذور الطائفية، التي عرفت، زمنَ التهافُت الفرنسي-الإنكليزي على الولايات العربية في السلطنة العثمانية، رواجًا أضحت معه ركيزة في النظام السياسي اللُّبناني. هذه الركيزةُ المُدمِّرةُ، رافقت بُنيان الكيان اللُّبناني الحالي، حتى استقلاله في العام 1943، واستمرَّت حاملةً بذور الإنقسام، مُتنقِّلةً من الطفرة الناصرية، المُرافقة للحرب الأهلية في العام 1958، إلى الكفاح المسلَّح الفلسطيني واتفاق القاهرة، 1969، المُتوَّج باجتياح إسرائيل لبيروت في العام 1982، وُصولًا إلى الوصاية السورية، (1976-2005)، وانتهاءً بفترة النفوذ الإيراني.

وللإنصاف،  تُضافُ إلى ذلك وصاياتٌ إسرائيليةٌ وعربيةٌ ودوليةٌ، عاثَ عُملاؤها فسادًا بحقِّ الوطن، المصلوب على خشبة تناحُر أبنائه وتآمُرهم على بعضهم البعض، مُقامرةً بمصيرهم وخدمةً مجانيةً لأطماع الأغراب.

فالمُشكلةُ لا تكمنُ في التنوُّع الطائفي، بل في عدم إدراك غالبية اللُّبنانيين ومعهم شعوب المُحيط أنَّ التنوُّعَ، عرقيّاً كان أو طائفيّاً أو مذهبيّاً، إنَّما هو نِعمةٌ لا نقمة. من هنا، فسَّرَ لبنان، وكاملُ دول المشرق العربي، مفهومَ الدولة على أنَّها احتكارٌ لمفاصل السلطة الحسّاسة، على أساس التوازُنات والأحجام الإثنية والدينية، لا على أساس الكفاءة والنزاهة وسواسية الشعب.

هذا ما رسى عليه الفهمُ العربي لمفهوم الدولة، فكان التركيزُ على الإستيلاء، ما أمكنَ، على مغانم ومراكز سلطوية، تقويةً لهيمنة ومناعة الجماعة المُسيطرة، على حساب الصالح العام ومصير الوطن الأسمى. وخيرُ دليلٍ على ذلك، ما برزَ حديثًا من مُصطلحات “المارونية السياسية” و”السنّية السياسية” و”الشيعية السياسية”، التي غالت، كلٌّ منها، بتقديم خدماتٍ دسمة لزبائنيتها، على الصُعُد النيابية والوزارية والإدارية.

والأنكى، أنَّ لكلِّ جماعةٍ لبنانيةٍ مرجعيَّتها الخارجية، كَمجالٍ شعوريٍّ حيويٍّ تستقي منها التوجيهات، بقدر ما تستقوي بها على الشريك الداخلي، غافلةً عن أنَّ الخارجَ ليس جمعيةً خيريَّةً ولا يعملُ بالمجّان. وهذا ما يُفسحُ بالمجال لمزيدٍ من ارتدادات مُجريات المُحيط على البُنية المُجتمعية المُفكَّكة في منطقةٍ استراتيجيةٍ حسّاسةٍ، تُعاني الأمرّين من الشرذمة وتضارُب المصالح.

آخر فُصول هذا المُسلسل المُقلق ما يعيشُه اللُّبناني، مع كتابة هذه السطور، من قلق اندلاع اقتتالٍ أهليٍّ، على وقع مناقشة الحكومة اللُّبنانية، هذا الأسبوع، موضوع حصر السلاح بالجيش اللُّبناني. وكأنَّه كُتِبَ على وطن الأرز أنْ يبقى مُخيَّرًا بين الحرب الأهلية أو استمرار الأُمور على تخبُّطها.

لطالما وُضِعَ الوطنُ الصغيرُ أمام الإمتحان العسير، حيثُ لم يُتركْ له مفرٌّ من الإقدام على الخيار الصعب، بين الإستمرار بالموت البطيء أو المُغامرة بربح المزيد من الوقت، لعلَّ مُقبِلَ الأيام يحملُ الترياقَ ضدَّ السُمِّ الزُعاف.

في هذا السياق، لا يُخامرُني أدنى شكٍّ بنوايا إسرائيل المُبَيَّتَةَ تجاه لبنان، والتي سبق لمُؤسِّسيها أنْ عبَّروا عنها خلال “مؤتمر باريس للسلام”، الذي عُقد في “ڤيرساي” في العام 1919، قبل ثلاثة عُقُودٍ على قيامها. كما لا يشوبُني شكٌّ بمطامعها، ليس بمياهه فقط، بل بأولوية استهداف فَرادته وضرب صيغته، النقيضة لصيغتها العُنصُرية.

من هنا، التحوُّطُ من تلك النوايا التوسُّعية واجبٌ وطنيٌّ، يفترضُ وحدةً وطنيةً صلبةً، لدرء ما يُخطَّطُ لوطن الأرز في العشايا السوداء. وإذا كان التوقيتُ الراهنُ ضاغطًا ضدَّ المصلحة اللُّبنانية العُليا، لا بأس من تغليب الحكمة في تمرير زمن الغلوِّ الإسرائيلي، بأقلِّ الخسائر المُمكنة، بانتظار استكمال الإستعداد الوطني الشامل، لمُقاومة أيّ اعتداءٍ خارجيٍّ صفًّا واحدًا، تنفيذًا لنداء الوطن السيادي، وتحت مظلَّة الوطن الجامعة.

إنَّ الوضعَ اللُّبناني، اليوم، في غاية الدقة، إذ يُمكن للحساسيات الدفينة أن تنفجرَ في أيَّة لحظةٍ. والمُخيفُ هو ما يُخفيه رفضُ واشنطن الراعية إسداء أيَّة خدمةٍ، للُبنان، أقلُّه الضغط على إسرائيل لوقف تعدياتها اليومية، حفظًا لماء الوجه تسهيلًا لخطوات الحكومة اللُّبنانية في بسط سيادتها على كامل ترابها الوطني.

جديرٌ بالذكر أنَّ لبنان لم يبخلْ يومًا تجاه قضايا مُحيطه العليا، وهو الذي خاطرَ بمصيره أكثر من مرَّةٍ، لدرجة التضحية باحتلال جنوبه وبقاعه وعاصمته، كرمى لتراب فلسطين. ولكن، وسط الغفلة المُسترسِلة في سباتها، وطنيًا وعربيًا، لم يعدْ جائزًا الإصرارُ على الإنتحار، في زمن العَبَث الإسرائيلي بإعادة قَوَلبة منطقة المشرق العربي، لا هروبًا من الواجب، بل استدراكًا لمزيدٍ من الضياع.

لقد آن الاوانُ لصحوةٍ تُرشدُنا إلى الوحدة والتعقُّل والتضامُن، رأفةً بدموع الأهل على فِراق فلذات أكبادهم المُهجَّرة، بحثًا عن موطىءٍ يستعذبُون فيه طعم الكرامة!

كفى ساديَّةً بحقِّ لبنان، الوطنُ المُؤمنُ بأنَّه صِنْوُ الحياة، والرافضُ، تاليًا، الصلبَ على مشجب البقاء أو الفناء. فحتّامَ نمضي في الندب واللَّطم والشكوى، مع شاعر الشعب المصري، حافظ إبراهيم، “شاعر النيل”:

لم يبقَ شيءٌ من الدُنيا بأيدينا        إلّا بقيَّةُ دمعٍ في مآقينا

حتى غَدَوْنا ولا جاهٌ ولا نَسَبٌ       ولا صديقٌ ولا خِلٌّ يُواسينا

  • الدكتور ڤيكتور الزمتر هو سفير لبناني سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى