التَرسيمُ البحري بين لبنان وقبرص: عَقدان من الجَدَلِ والفُرَصِ الضائعة
السفير الدكتور بسّام عبد القادر النعماني*
على ضوءِ لقاءَي رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون ورئيس الحكومة نوّاف سلام مع اللجنة الخاصة بالتوصُّل إلى إتفاقٍ بحري بين لبنان وقبرص، يعودُ ملفُّ الترسيم البحري إلى الواجهة في بيروت مع تجدّدِ النقاش حول مستقبل الحدود البحرية وحقول الغاز في شرق المتوسط.
يمتدُّ ملفُّ ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وقبرص لأكثر من 15 عامًا، جامعًا بين الجوانب القانونية والجيوسياسية والاقتصادية. وعلى الرُغم من توقيعِ اتفاقيةٍ في العام 2007، فإنها لم تُصدَّق حتى اليوم بسبب ما يعتبره لبنان “إجحافًا” في حقوقه البحرية، ما جعل المسألة عالقة في دائرة المفاوضات غير الحاسمة.
لقد بدأت المفاوضاتُ أوائل الألفية بعد اكتشاف مؤشّراتٍ إلى وجودِ احتياطاتٍ ضخمة من الغاز في شرق المتوسط. وفي 17 كانون الثاني (يناير) 2007، وقّعَ البلدان اتفاقيةً لترسيم الحدود البحرية وفقَ خريطة تقدم بها القبارصة ووافق عليها اللبنانيون. غير أنَّ لبنان تراجَعَ عن التصديق بعد ورودِ تقارير من خبراءٍ دوليين ومحليين تشيرُ إلى أنَّ الاتفاق يقتطعُ نحو 2600 كيلومتر مربع من مياهه الاقتصادية بعد استعمال تقنية “خط الوسط” التي أقرت في إتفاقية 1982 الدولية لقانون البحار.
الأزمة تفاقمت في العام 2011 حين وقّعت قبرص اتفاقًا بحريًا مع إسرائيل انطلاقًا من النقطة 1 بدل النقطة 23 التي يعتمدها لبنان، ما تسبّب بخسارة إضافية لمساحةٍ بحرية غنية بالنفط والغاز.
الواقع أن هناكَ مشكلات رئيسة تعترض إتمام الصفقة بين لبنان وقبرص تتلخّص بالآتي:
- التداخُل مع النزاع اللبناني–الإسرائيلي: الجُزءُ الجنوبي من خطِّ الترسيم مع قبرص مُرتَبطٌ بالحدود البحرية مع إسرائيل، ما يُثيرُ مخاوفَ من تثبيتِ إحداثياتٍ تُقلّلُ من حقوق لبنان.
- إهمالُ الظروف الخاصة: الاتفاقية لم تعتمد خطَّ الوسط بشكلٍ كامل، مُساويةً بين دولةٍ جزيرية (قبرص) ودولةٍ قارّية (لبنان)، ومُتجاهلةً معيار التناسُب بين أطوال السواحل.
- المصالحُ الاقتصادية: بعضُ البلوكات النفطية، مثل 1 و2 و5 و8، يقعُ في مناطق حساسة وقريبة من الحدود البحرية المُتنازَع عليها.
- العوامل الجيوسياسية: دولٌ مثل إسرائيل، قبرص، ومصر تحرّكت بسرعة لاستغلال الغاز، فيما بقي لبنان متأخِّرًا بفعل الانقسامات السياسية والأزمات الداخلية.
مع ذلك، هناك حلولٌ مُقتَرحة تتلّخص بالآتي:
- إعادةُ التفاوُض: تعديل النقاط المرجعية، خصوصًا النقطة 1 لتُصبح النقطة 23، واعتماد معيار التناسُب بدلًا من تجاهل خط الوسط.
- التحكيم الدولي: اللجوءُ إلى محكمة العدل الدولية أو محكمة البحار في حالِ فَشلِ المفاوضات.
- اتفاقٌ ثلاثي: ضَمُّ إسرائيل إلى اتفاقٍ برعايةٍ أممية، على غرار اتفاق ترسيم 2022 بين الدولة العبرية ولبنان، رُغمَ صعوبة ذلك سياسيًا في الوقت الحالي.
- تعاونٌ ثُنائي مؤقت: تبادُل المعلومات التقنية ومنع الاستكشاف في المناطق المُتنازَعُ عليها إلى حين حسم الخلاف.
ما هو البُعدُ الاقتصادي؟
تشيرُ تقديراتٌ أميركية إلى أنَّ شرق المتوسط يحتوي على 124 تريليون قدم مكعبة من الغاز و1.7 مليار برميل من النفط، منها نحو 24% في المياه اللبنانية. وتقدَّر قيمة حصة لبنان بنحو 1700 مليار دولار للغاز و21 مليار دولار للنفط. لكن القوانين والاتفاقيات الحالية، لا سيما المرسوم 2017/43، تقلّص حصة الدولة الفعلية إلى ما يقارب 47% في أفضل الحالات، وهي أقل بكثير من المعدلات العالمية.
لكي ينجح لبنان في استغلال هذا الملف، ما هي الرؤية الاستراتيجية لذلك؟
يوصي الخبراء بضرورة: إصلاح القوانين بما يضمن مشاركة الدولة الفعلية في الإنتاج؛ إنشاء صندوق سيادي على النمط النروجي؛ إعداد كوادر بشرية متخصّصة وبنى تحتية لاستغلال الثروات؛ وتجنّب الصراعات الدولية والإقليمية والحفاظ على استقلال القرار الاقتصادي.
ويبقى أنَّ ملف الترسيم بين لبنان وقبرص يعكسُ مزيجًا مُعقّدًا من القضايا القانونية والسياسية والاقتصادية. وفي ظل الأزمة المالية الخانقة، يشكل حسمه فرصة ثمينة للبنان إذا ما أُدير بعقلانية ورؤية موحّدة، بعيدًا من الضغوط والاعتبارات الضيِّقة، لضمان استغلال ثروات الغاز والنفط كركيزةٍ لمستقبل اقتصاديٍّ أكثر استقرارًا.
- السفير د. بسام عبد القادر النعماني عمل في سفارتَي لبنان في واشنطن ولندن خلال فترة 1983-1999، وقد عُين سفيرًا للبنان لدى باكستان، والمملكة العربية السعودية، والكويت، وتونس. كما تولى سنة 2007 منصب الأمين العام لوزارة الخارجية والمغتربين بالوكالة. وقد عالج ملف مزارع شبعا في وزارة الخارجية اللبنانية خلال الفترة 2000-2007.