مُفاوَضاتٌ على الأرضِ أم حَولَ الطاولة؟

الدكتور ناصيف حِتّي*

في اليومِ التاسع بَعدَ بَدءِ الحربِ الإسرائيلية على إيران، انخرطت الولايات المتحدة في الحربِ عبرَ “الضربات الجراحية” أو الحرب “المحدودة” كما يجري تعريفها من حيثُ دقّة الأهداف عبر الهجوم الجوي على المُنشآتِ النووية الإيرانية الرئيسة الثلاث: فوردو (وهي الأهمّ)، نطنز وأصفهان. وقد أعلنت واشنطن أنها حقّقت هدفها من هذا الهجوم إذ إنَّ هذه المُنشآت “لم تَعُد قائمة”، وبالتالي لم تَعُد فاعلة. وجاءَ ردٌّ إيراني بأنَّ كمياتَ اليورانيوم العالي التخصيب في فوردو الذي كانَ هدفَ الهجوم الأميركي الأساسي قد أُخلِيَت مُسبَقًا.

إنَّ تَغَيُّرَ “قواعد اللعبة” هو الأهم من حيثُ تطوّرات هذه الحرب المحصورة في المكان (إيران وإسرائيل) حتى الآن، والمفتوحة في الزمان. وللتذكير فإنَّ الهجومَ الإسرائيلي على إيران قد انطلقَ بَعدَ أقلِّ من يومين على مبادرةِ دولٍ عربية، بناءً على طلبِ إيران، مع الولايات المتحدة للعودة إلى المفاوضات. وقد حُدِّدَت على أساسها الجولة السادسة يوم الأحد في 15 حزيران (يونيو) الجاري في مسقط وأسقطها الهجوم الإيراني فجر الجمعة في 13 حزيران (يونيو). بالطبع لا يعني ذلك أنَّ الولايات المتحدة لم تَكُن في صورةِ القرارِ الإسرائيلي، وهي بالطبع لم تعمل على وَقفِ تنفيذه إذ تبقى واشنطن قادرةً، لو أنها رَغِبت، في الضغط على إسرائيل لوقف الحرب على إيران، ولو لم يكن ذلك في اليوم الذي انطلقت فيه الحرب.

الهدفُ الأميركي (وتحديدًا الإدارة الحالية) المُشترَك مع إسرائيل، ولو قد تختلفُ السُبُلُ في الوصولِ إليه، هو منعُ إيران من امتلاكِ أيِّ قدراتٍ نووية ولو كانت مدنية وحتى بالحدِّ الأدنى المُمكِن لمستوى التخصيب. هذا الأمرُ للتذكير هو الذي دَفَعَ إدارةَ ترامب الأولى في العام 2018 إلى الانسحابِ من الاتفاقِ النووي لعام 2015 (ما عُرِفَ بخطة العمل  الشاملة المشتركة، أوا اتفاق 5 زائد 1) الذي وقعته إدارة باراك أوباما. لكنَّ واشنطن تُدركُ، ومعها إسرائيل، أنّهُ من غير الممكن بالفعل نزع العامل النووي كُلّيًا، وهو الذي يحظى بدعمٍ شعبي ووطني إيراني واسع أيًّا كانت المواقف من النظام الحالي، وبالقوة من إيران بعدَ التقدُّم الذي حققته عبر سنواتٍ عديدة.

الحديثُ عمّا يُعرَفُ ب”الخيار الليبي”، الذي أشرنا إليه في مقالةٍ سابقة، والذي  للتذكير تمَّ في العام 2003 عندما تخلّت الجماهيرية الليبية السابقة عبر التفاوُضِ وسياسة العصا والجزرة، عن كلِّ ما تملكه من بُنى وتجهيزاتٍ لبناءِ قدرةٍ نووية، لا يمكن تنفيذه في الحالة الإيرانية للاختلاف الكُلّي بين الحالتَين  الليبية والإيرانية من حيثُ القدرات أوّلًا والدور الإقليمي ثانيًا. واشنطن تُوجّهُ الرسائل لطهران بأنها لا تهدفُ إلى إسقاط النظام، بل التغيير في سلوكياته وسياساته في المنطقة، الأمرُ الذي يفترض أن يفتحَ البابَ للتفاوُضِ مُجدَّدًا.

إنَّ الهجومَ الجوي والصاروخي الأميركي على إيران يندرجُ في استراتيجية واشنطن التي تقومُ على التفاوُض على الأرض (عبر الأعمال العسكرية) لتقوية القدرة في التفاوض حول الطاولة، الأمرُ الذي ترفضه طهران وتصرُّ على وَقفِ القتالِ كُلّيًا قبل العودة إلى المفاوضات. الخوفُ من استمرارِ الحربِ المفتوحة في الزمان في ظلِّ هذه المعادلة أن يحدثَ “انزلاقٌ” في المواجهة الأميركية-الإيرانية ناتجٌ عن خَطَإٍ في الحساب وقائمٌ على توجيه رسائل بالنار عبر توجيهِ ضرباتٍ إيرانية ولو مُحدَّدة ومحدودة لأهدافٍ أميركية عسكرية في المنطقة. سيؤدّي ذلك إلى حربٍ مفتوحة في الجغرافيا، ولو بشكلٍ تدرُّجي، وفي الأهداف، مما يزيدُ من التعقيدات أمامَ وَقفِ الحرب والعودة إلى طاولة المفاوضات.

الاجتماعُ الأوروبي- الإيراني في جنيف يوم الجمعة الفائت الذي قدّمَ على الطاولة الموقفَ الأميركي بشكلٍ أكثر مرونة، أو بلغةٍ ديبلوماسية أوروبية كما وصفه أحدهم، لم يأتِ بالنتائج المطلوبة. حصلَ ذلك رُغمَ أنَّ إيران لا تخفي مصلحتها في استمرارِ وتعزيزِ الحوار مع القوى الأوروبية الرئيسة الثلاث، ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، في الحوار ومعها أيضًا الممثلة الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية للاتحاد الاوروبي كاديا كالاس، وذلك لأهدافٍ تتخطّى المشكلة النووية. يدفعُ إلى ذلك أيضًا أنَّ الحليفَ الإسرائيلي سيفعل ما باستطاعته لمنع وقف إطلاق النار والعودة إلى المفاوضات، التي رُغمَ الخلافات الأساسية بين طرفَيها الأميركي والإسرائيلي لا تُلاقي ارتياحًا إسرائيليًا.

كلُّ يومِ تأخيرٍ في العودة إلى طاولةِ المفاوضات، بعدَ وَقفِ إطلاق النار كُلِّيًا بالطبع، أيًّا كانت الصيغة والأطراف التي قد تُدعى للمشاركة فيها بُغيةَ تسهيلِ عملية التفاوُض، سيؤدّي إلى مزيدٍ من التعقيدات والمخاطر التي تطالُ في تداعياتها المنطقة ولو بدرجاتٍ وأشكالٍ مختلفة. وحدها واشنطن قادرةٌ أن تفرضَ قبولَ وقفِ إطلاقِ النار على إسرائيل، فهل ستفعل ذلك ومتى؟ الإجابة عن هذَين السؤالَين تُحدّدُ طبيعةَ العملِ بدرجةٍ كبيرة ونوعَ ومنحى التطوّرات المقبلة في الإقليم.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى