أُمثولةُ سائقِ التاكسي الفلسطيني: الجنونُ لمُواجَهَة الهزيمة

الدكتور جورج صدقه*

وصل نايجل هوارد، عالم الرياضيات البريطاني، الى مطار القدس وأراد التوجه الى الفندق. طلبَ من سائق تاكسي فلسطيني أن يُوصِلَهُ الى فندقه، لكنه تحاشى السؤال عن أجرة التاكسي خوفًا من أن يشترطَ السائقُ بَدَلًا عاليًا. وارتأى أنه عند الوصول سيدفعُ إلى السائق البَدَلَ الذي اعتادَ أن يدفعه. بوصوله إلى الفندق، وقبل نزوله من السيارة، أخرجَ المبلغَ الذي أراد دفعه وناوله للسائق. رأى السائق أنَّ المبلغَ أقلّ مما يُريد فأصرَّ على أجر أعلى. غير أنَّ هوارد رأى نفسه في موقعٍ تفاوضي يسمحُ له بأن يفرضَ الأجرَ الذي يُريد اذ أنه قد وصل الى وجهته وأنه سيضع السائق أمامَ حتمية القبول. ومع إصراره على عدم رفع البدل، تفاجأ بأنَّ سائق التاكسي أقفل أبواب السيارة واستدار عائدًا به إلى المطار.

العالم نايجل هوارد مُتخصِّصٌ في “نظريات اللعب”، وهو ميدانٌ في علوم الرياضيات يُدَرّسُ التفاعُلات بين الأشخاص، ويُحلّلُ العلاقات بين الأطراف المعنيّة بموضوعٍ مُشتَرَك، ويتوقّعُ ردّات فعل الآخرين ليتصرّف مُسبَقًا بشكلٍ يخدمُ الهدف الذي حدّده لنفسه. ومُكتَشِفُ هذا العلم كان حصل على جائزة نوبل لأنَّ هذه النظرية تُطبّق في ميادين مختلفة مثل الاقتصاد والسياسة وغيرهما، وهي تسمح بارتقاب تصرفات الآخرين وتصوّر السيناريو الأفضل لتصرّف الأفرقاء والزبائن. هوارد كان عمل مستشارًا للحكومة الأميركية في مفاوضات الأسلحة النووية مع روسيا. وقد تصرّفَ مع السائق انطلاقًا مما يُطبّقه عادةً من نظرياتٍ في توقّعِ تصرّفات الآخرين وردّات فعلهم، لكنه لم يَكُن يتوقّع ردّة فعل السائق هذه. ففي “نظريّات اللعب” يَعتَبِرُ كلُّ طرفٍ أنَّ الآخرَ سيأخذ قراره انطلاقًا من مصلحته الشخصية للوصول إلى الخيار الأفضل له. لذلك لم يَكُن تصرُّفُ السائق يندرجُ في منطق مصلحته الشخصية لأنه خسر أوّلًا بدل النقل الذي كان سيقبضه، وثانيًا تكلّفَ مصاريف العودة إلى المطار من جيبه الخاص. وهذا ما لم يَكُن في حسابات عالم الرياضيات لأنَّه يَخرُجُ عن قواعد “نظريات اللعب” المألوفة.

هذه الحادثة جرت في القدس في العام 1991 وقد كانت مَدخَلًا كي يُراجِعَ عالِمُ الرياضيات نظرياته، وراحَ يُحلّلُ لماذا أخطأ في توقّع ردّة فعل السائق، ولماذا تصرّفَ السائق على هذا النحو؟

التفسيرُ الذي قدّمهُ العالِم البريطاني هو أنَّ سائقَ التاكسي الفلسطيني يجهل “نظرية اللعب”، وعندما تملّكه الغضب تصرّفَ بشكلٍ غير عقلاني وضدّ مصلحته الشخصية وغيّرَ بذلك قواعد اللعبة بالكامل. وانطلاقًا من هذا استخرَجَ عالِمُ الرياضيات نظريةً جديدة في “نظريات اللعب” بناها على أساس أنها “دراما” تنشأ في ظروف النزاعات والصراعات المختلفة وهي تتولّد عن ديناميّة هذه الصراعات في إطارٍ خارج التصوّر العقلاني. والدرسُ الرئيس الذي استنتجه من نظرية “الدراما” هو عندما يعلمُ الشخصُ أنّهُ خاسرٌ لا محالة فالتصرُّف العقلاني الوحيد هو أن يُصابَ بالجنون تمامًا ويُغيّرَ قواعد اللعبة بالكامل، ولو كانت في غير مصلحته.

هذه الرواية أوردها الصحافي محمد عارف في مقالة في جريدة الحياة بتاريخ 3 تشرين الثاني (نوفمبر) 1998، وحملت عنوان: “الجنون لمواجهة الهزيمة”، وقد عدتُ اليوم الى هذه المقالة لمقاربتها مع حرب غزة وما إذا كان “جنون” حركة “حماس” جاء “حلًّا” في مواجهة الهزيمة/المأساة المستمرّة للشعب الفلسطيني.

إنَّ تحليلَ العالم البريطاني ينطلقُ من وجهةِ نظرٍ غربيّة في ردّات الفعل التي تُعطي الأولويّة للعقلانية في التصرُّف وتقدّمها على ما عداها من العناصر الأخرى التي قد تعصف بالإنسان في حالاتٍ نفسية مُعيّنة. لذلك اعتبر هذا العالِم ردّة فعل السائق غير عقلانية وتقترب من الجنون. لكن بالنسبة إلى سائق التاكسي الفلسطيني فإنَّ ردّة فعله كانت رفضًا للذل والظلم الذي شعر بهما من جانب هذا الأجنبي الذي أراد سلبه حقه وفرض إرادته عليه. اعتبرَ السائقُ أن كرامته وعنفوانه أهمّ من بضعة دولارات كان سيقبضها لو قَبِلَ بالبدل المعروض عليه. وهو ألحق “هزيمة” ولو رمزية بهذا الراكب واستعاد بعض كرامة، ولم يكن عنده من وسيلةٍ أخرى لردّ “الاعتداء” عليه.  وهكذا يكون حقّقَ انتصارًا معنويًا هو بالنسبة إليه أهمّ من الخسارة المادية التي لحقت به. لكن هذا المنطق لم يأتِ على بال العالم البريطاني الذي يُحلِّلُ بعيدًا من المعاناة النفسية ويتمسّك بالمعادلات الرياضية العلمية والعقلانية.

مَثَلُ هذا السائق قد ينطبقُ على واقع الشعب الفلسطيني الذي يُعاني من الظلم والقهر والإذلال منذ عقود طويلة، وهو لا يملكُ أيَّ وسيلةٍ ليردّ عنه الظلم الذي يلاحقه.

قد يصعبُ على الغرب أن يفهمَ “لا عقلانية” الشعب الفلسطيني الذي ما زالَ يُقاومُ منذ أكثر من سبعين عامًا بوسائل بدائية في وجه أكثر جيوش العالم تجهيزًا وشراسة، وما زال يخوضُ معارك لا تؤدّي حسب المنطق الغربي إلى أيِّ انتصارٍ من شأنه أن يعطيه الغلبة. لكن عملية “طوفان الأقصى”، وإن نتجَ عنها عشرات آلاف القتلى، غالبيتهم من النساء والأطفال، والأخطر أنها قد تؤدّي إلى تهجيرٍ جديدٍ لمئات آلاف الفلسطينيين من أرضهم، غير أنها بنَظَرِ الكثيرين عمليةٌ تُعبّرُ عن رَفضِ الظلم المُستمِرّ من جانب هذا الشعب الذي يستشهدُ كلَّ يوم.

  • الدكتور جورج صدقه هوعميد كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية، سابقًا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى