الشعر: بَراعةُ موهبة… وحذاقةُ صناعة

ميخائيل نعيمة: أَخَذَ شعره إِلى الفلسفة

هنري زغيب*

في سياق هذه السلسلة التي بدأْتُها عن الشعر منذ خمس حلقات، أُواصل البحث في جوهر الشعر ظاهرةً أُعجوبيةً كالسحر لا يُمَسُّ ولا يُشرحَ في بيانٍ منطقيّ.      

الشِعر وحيٌ؟ صحيح.

لا يؤْتى لِجَميع الناس؟ صحيح كذلك.

لكنّ الصحيحَ أَيضًا أَنَّ الشِعر موهبةٌ وصناعةٌ، جناحان لا يطير شاعرٌ إِلَّا بِهِما معًا.

رشيد أَيوب: أَخَذَ شعره إِلى التأَمُّل

القصيدة وعقد اللؤلؤ

وليس جِدِّيًّا أَن يكتفي الشاعرُ بالسَبْكة الأُولى لقصيدته بِحجّة أَنَّها “هكذا أَتت”. ليس للشاعر ما يأْتيه “هكذا”. بل عليه أَن يعمل على قصيدته صقلًا وتَجويدًا، حتى تليقَ بالشِعر والشاعر. عقدُ اللؤْلؤ لا يُهدى الحبيبةَ بِحالته البدائية، بل بعد صقْله ونِهايات بَلْوَرته.

من هنا أَنَّ الشاعر المتمكِّن، (ومثله الناثر المتمكِّن) هو (إِلى موهبته) حِرَفِيٌّ صَناع، يعرف اللعبات الجمالية والأُسلوبية والبلاغية جَميعَها، ويُمارسُها ببَراعة حاذقة. ومتى امتلَك الشاعر حِرَفيَّته، أَتاهُ الشِعر مترجِمًا شاعريَّتَه أَكثر.

ناصيف اليازجي: أَخَذَ شعره إِلى التقليد

الشاعر فنان وحرفيّ

وإذا المُبدع، باستمرار، مأْخوذٌ بموهبته في “الحالة الأُخرى”، فالحِرَفِيُّ فيه هو ذاك “الآخَر” الواعي. ينبِّهُهُ. يَقيه عثراتِ القلم وشطَطَ الاسترسال. وحين يتصالَح في الشاعرِ الفنانُ والحِرَفِيُّ، يصير الشِعر جمالًا أَكثر، مُشعًّا أَكثر. يصير شِعرًا أَكثر. من هُنا حدَّدَ اليونان الشِعر بأنّه “عربةٌ يَجُرُّها حصانان: العاطفة والخيال، ويَسوسُها حوذِيٌّ حكيمٌ هو العقل”. إِذًا: لا بُدَّ في الشعر من الوعي يُعَقْلُن اللاوعي، كما لا بُدَّ للرسام من زيتٍ تأْسيسي، يَشُدّ نسيجَ القماش كي لا يتفسَّخ مع السنوات فيُشَقِّقَ الأَلوان التي عليه في ما بعد، يَدهن به قِماشَتَه البيضاء قبل أَن يَدخل في حالات اللاوعي، حالات الإِبداع خُطوطًا وأَلوانًا وولادةَ لوحة.

وهج القصيدة لا وجه صاحبها

الشِعر هو هذا الـمَسُّ الأُعجوبِيُّ الذي لا تفسيرَ منطقيًا له. مسٌّ حسِّيٌّ لاعقلانِيّ (مع أَنَّ خلفيّةَ أُصوله عقلانيةٌ – بل تقنيَّةٌ- بَحتة)، تَمامًا كالأُوبرا العظيَمة، ليس لِجَمالِها تفسيرٌ عقلانِي، فهي حسّية لاعقلانيّة (فيما أُصولُ تأْليفِها عقلانية – بل: تقنيةٌ – بَحتة). وهنا جهْلُ أَن نبحث في القصيدة عن “الحكاية”، ونُشيحَ عن تقنيَّة الشاعر الشِعرية ومهاراتٍ فنيةٍ جَمالية فيها هي التي تُنصِّع قصيدته. فالذي سيبقى على الزمان: وهجُ القصيدة لا وجهُ صاحبها.

كما في المدار تَتَكَوكَب النجوم وتتنوّع شعاعاتُها وتَحْلَولِي لأَنَّها متناغمة فيه، هكذا الإِيقاع هو المدار الذي يتَكَوكَب فيه الشِعر، وعلى الشاعر أَن يُجَدِّد، يُطوِّر، يَجتزئ، ينوِّع، إِنّما من داخل هذا المَدار، لأَنه إِذا خرَج عنه، سقَط في السديم وضاع في المجهول لأَنه خرجَ من كينونة فنِّه وجوهرها. ولا جِدِّيَّةَ للكلام على ما يسمّى “الإِيقاع الداخلي”. فالإِيقاع الحقيقي هو الذي يَطفُر، يَبرُز، يفرضُ حضوره على سامعيه، وليس ما يُحاول البعض افتراضَه وفرضَه على القارئ. وتاليًا: الإِيقاعُ الذي يَغرَق في طنطنَةٍ وزْنِيَّةٍ ونَغَميةٍ مَجّانية، لا يُشّكِّلُ جوهر الشِعر ولا بِحال.

صلاح لبكي: أَخَذَ شعره إِلى الجمال

الإِيقاع الداخلي وهْم

الإِيقاعُ، إِذًا، ميزانٌ يَجب أَن يكونَ ظاهرًا وواضحًا، لا أَن يَبحث عنه المتلقُّون باجتهاداتٍ يَعمَدون إِلى تفسيرها والتنظير حولَها واستنباط ما قد لا يكون فيه، فقط لِتَجَنُّب الشعور بأَنّهُم أَخفقوا في إِيجاد ذاك الإِيقاع “داخليًّا”. إِن السمفونيا الخالدة لا نُفتِّش عن إِيقاعها “داخليًا” بل ميلودياها هي التي تَفرض إِيقاعها ظاهرًا، من دون جهْدٍ منَّا، أَو مِمَّن يُنَظِّر لنا عنها.

سِرُّ الإِيقاع في بساطته. وهي البساطةُ التي تَهُزّ. الأُمُّ لا تأْتِي وليدَها بالجديد، بل تُهَدْهِدُهُ بإِيقاعٍ مضبوطٍ يُطْرِبُه فيَغفو على نغمة الإِيقاع الموقَّعة بمنهجية متناغمة.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر منصة إكس على:  @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا المقال في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى