لا وألفُ لا… هذه ليست سوريا التي نَفتَخِرُ بها ونُحِبُّها
عرفان نظام الدين*
عندما أُتابعُ أخبارَ الجرائم الوحشية ومذابح الأطفال والنساء في المعارك المُشينة التي ارتُكِبَت خلالَ الأيام القليلة الماضية، أشعُرُ بالخجل الشديد إن لم يكن بالغثيان. لقد استنكرتُ طويلًا الاعتداءات الإسرائيلية وأدنتُ المذابحَ التي ارتكبتها إسرائيل ضد المدنيين العرب ومنهم آلاف الأطفال والنساء العُزَّل من السلاح، لكن لم أكن أتوقع أن يحدث الشيء نفسه من الجرائم والمذابح في الساحل السوري والتي لا مُبرِّرَ لها لأنها شملت أبناءَ وطنٍ واحد وتاريخٍ واحد.
هذه ليست سوريا التي افتخرنا بها وأحببناها وظننا أنَّ الروابط الوطنية والعائلية والإنسانية وصلة القربى والدم والتاريخ تُحرّمُ هذه الممارسات، لكن ما جرى لا يُمكِنُ التسامح معه ولا التخفيف من آثاره. ونحن ننتظر نتائج التحقيق الذي أعلن عنه الرئيس السوري أحمد الشرع، علينا ألّا نُقلّلُ من خطورة ما حدث، وألّا يُسمَحُ بلفلفة الحقائق لأنه لا بُدَّ من كشفها بشفافية وتحديد المسؤوليات وإنزال أشدّ العقوبات بمَن تُثبت إدانته.ً وهذا يجرّنا إلى البحث عن عن الأسباب التي أدّت إلى وقوع ما وقع.
أول هذه الأسباب كانت حالة الفوضى التي سادت فور سقوط النظام السابق وهرب رئيسه بشار الأسد مع أركانه إلى روسيا. وزادَ الطين بلّة حلُّ الجيش والشرطة، وغياب المعلومات، وشرح الأوضاع، وتحديد المسؤوليات، وإطلاق سراح المجرمين، الأمر الذي زادَ في عُمق الأزمة.
وكم من مقالاتٍ وتحذيراتٍ صدرت مُطالبةً بالأمن والأمان بحسمٍ وحزم، ولكن بدون جدوى، ما أدّى إلى وقوعِ أحداثٍ جسام وانتشار السرقات وحوادث السلب والنشل والقتل.
والخطأ الذي أثار الارتياب والتردّد تمثّلَ في غياب التطمينات والتأكيدات بأنَّ الإدارة السورية الجديدة لم تضع خارطة طريق وتشرح السياسة العامة للمرحلة الانتقالية والمواقف السياسية بالنسبة إلى الديموقراطية والمساواة في الحقوق والواجبات وحقوق الإنسان وغيرها من الضمانات التي توحي بالثقة وتُبعدُ الشكوك وهي كثيرة. كما إنَّ الرئيس الشرع تحدث كثيرًا في وسائل الإعلام عن الحاضر والمستقبل من دون أن نشهدَ التزامًا من مفاصل الدولة، بل إنَّ بعضَ الفصائل عمد إلى تطبيقِ القوانين بشكلٍ عشوائي وارتكب جرائم قتل وخطف وسجن، ما أدّى إلى فقدان الثقة، كأنّ هؤلاء يؤدّون دورًا في مسلسل “ساحة كل مين إيدو إلو”، وازداد الغموض حول هوية الفصائل المشاركة في الحكم، ولم تُكشَف أسماءُ الفصائل وتاريخها ومواقفها السياسية والدينية.
هذه العوامل وغيرها أدت إلى الممارسات المُستَنكرة وذبح الأبرياء وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية والتعصُّب، ما زاد من مخاوف مكونات الوطن وتناقص الإيمان من البعض بالوحدة الوطنية في أجواء غياب الوعي وتقصير الإعلام ومشاركة بعض وسائل التواصل الاجتماعي بإشعال نار الفتن ونشر الاخبار الملفّقة. ولم يحاول أيُّ طرفٍ شَرحَ تاريخ الوحدة والالتزام بالروابط التي جمعت مكوّنات الوطن من مسلمين ومسيحيين وعلويين ودروز وأكراد وغيرهم من المكوّنات، وكيف عاش الحميع تحت فضاء الوحدة بروح الود والمحبة. وأكبرُ دليلٍ على ذلك صمود المؤسّسات والمواقع الدينية في وجه الصراعات والعواصف: ١٤٠٠ سنة لم نشهد فيها كنيسة دُمِّرت ولا جامع أزيل. ولا موقع ديني ثقافي للعلويين والدروز وغيرهما. وما زلنا نسعد بقلعة تدمر وآثار التاريخ الغابر.
يبقى عاملٌ آخر ساهم في كل ما جرى ويجري اليوم وهو التركة الثقيلة التي تركها الرئيس الهارب ونظام حكم البعث الذي استمرّ نصف قرن وأوغل في تدمير البنى التحتية للقيم ودعائم الوحدة وإفساد المؤسسات وإثارة المخاوف من المكوّن الاخر، وترديد مزاعم بانه المنقذ للمكوّنات الأخرى من المسلمين خصوصًا.
وأختم مع الدور التحريضي لإيران وميليشياتها التي بدات بالتعاون مع بعض الضباط من بقايا النظام الهارب في محاولةٍ لاستعادة السلطة في بلد دُمِّرَ بنيانه على أيدي هؤلاء وغيرهم دون أن ننسى دور إسرائيل في التحريض واستغلال الفرصة لقضم الأراضي السورية. و لا بد من التنبُّه لهذا الخطر الصهيوني الذي بدأ منذ اليوم الأول لوصول الإدارة الجديدة إلى الحكم باحتلال أراض جديدة. وهذا يحتاج مقالًا آخر يشرخ الأخطار.
حمى الله سوريا الحبيبة وشعبها. وأعادَ إليها أيامها الزاهية، وهي غير سوريا اليوم التي يحاولون تشويه صورتها وإضعاف دورها لتنفيذ مؤامرة التقسيم لا سمح الله.
- عرفان نظام الدين هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي عربي مُقيم في لندن. كان سابقًا رئيس تحرير صحيفة الشرق الأوسط السعودية.