مأساةُ فلسطين تجسيدٌ لضُمورِ الضَمير!
الدكتور فيكتور الزمتر*
مَن رامَ أنْ يشهَدَ على ضُمورِ الضمير العالمي، وانحلالِ القِيَم والأخلاق، يلقى مُرادَه برؤية السجّاد الأحمر يُفرشُ، احتفاءً بزيارة مُتَّهمٍ بجرائم حرب!
هذا المشهدُ السوريالي لم يتوقَّفْ عندَ هذا الحدِّ، بل تواصلَ على طاولة المُباحثات الأميركية-الإسرائيلية، هذا الأسبوع، حيث تغزَّلَ الدهاءُ بالغباء (قصَّةُ الجبنة بين الثعلب والغُراب) فاستأنست النرجسيةُ بالرياء، من خلال تقديم بنيامين نتنياهو صورةً عن رسالته إلى “لجنة جائزة نوبل”، يُرشِّحُ فيها الرئيس دونالد ترامب لجائزة نوبل للسلام!
ومُقارنةً مع المشهد المُضحك المُبكي، يَحسُنُ بالمُراقب الموضوعي أنْ ينظرَ إلى الدم القاني، المسفوك راهنًا في غزَّة، بمعدل سبعين ضحيةً يوميًا، والعالمُ القريبُ والبعيدُ يَعْلكُ الإدانةَ رفعًا للعتب، افتقارًا لحمية صوت الضمير، إنْ لم يكنْ لِنُصرة فلسطين، فأقلُّه حفاظًا على ما تبقَّى من ماء وجه الإنسانية المخذولة!
إلى ذلك، لم يغبْ مصيرُ غزَّة على المدى الطويل، عن مُباحثات ترامب- نتنياهو، ولا قضيةُ إيران وآفاقُ السلام الإبراهيمي. كما لم يفُتْ رَفْعُ الأنخاب، انتشاءً بما حقَّقته ثُنائيَّتُهما بالمواجهة العسكرية الأخيرةُ مع إيران، ما حدا بالرئيس الأميركي إلى مقارنة ضرب المُنشآت النووية الإيرانية، بقصف هيروشيما وناكازاكي بالسلاح النووي (في 6 و9 آب (أغسطس) 1945) الأمرُ الذي أنهى الحربَ العالميةَ الثانيةَ.
إلى ذلك، تبقى الأنظارُ مشدودةً إلى ما ستؤول إليه الجهودُ المبذولةُ، للتوصُّل إلى هدنة لمُدَّة ستين يومًا، لالتقاط الأنفاس ولملمة الجراح ولإشباع الأفواه الجائعة، المحرومة من الرغيف الحاف. فالحذرُ واجبٌ لِما قد يُحيطُ بمباحثات الجانبين، الإسرائيلي والأميركي، من مكائد ومُخرجاتٍ مُلتويةٍ تجهدُ لبعث مشروع “ريڤييرا الشرق الأوسط”، بشكلٍ أو بآخرٍ، إنفاذًا لِمُخَطَّط تهجير فلسطينيي القطاع!
إنَّ إيلاءَ حياكة حلِّ القضية الفلسطينية للخارج، بعيدًا من بيئتها العربية، وجعلها رهن الوساطة الأميركية تحديدًا، يُصيبُها بمَقْتَلٍ. إذ ليس من باب المُصادفة أن تكونَ جينةُ الوُسطاء الأميركيين، بغالبيتهم، من جينة الجلدة الإسرائيلية، بدون أنْ تُثيرَ هذه الجُزئيَّة المفصلية أيَّ تساؤلٍ أو اعتراضٍ، تسليمًا بمقولة “حاكمُكَ ربُّكَ”. وهذا ما يعكسُ ضُعفَ الإلتزام العربي بهذه القضية المُحِقَّة، ما دفعَ الفلسطينيين إلى تسوُّل إحقاق حقِّهم من جلّاديهم، بالصدور العارية والبطون الخاوية، ولسانُ حالهم يُردِّدُ مع المُتنبي: “فيكَ الخصامُ وأنت الخصمُ والحكمُ”!
وعليه، يُستبعدُ تخلّي إسرائيل، في ذُروة النشوة بالنصر، عن فكرة تهجير أهل القطاع، للإبقاء على احتلاله، طالما ضمَّت القسمَ العربي من قرار تقسيم فلسطين (رقم 181 تاريخ 29/11/1947)، وزادت عليه القدس والضفة العربية (في7/6/1967) ولم تتورَّعْ عن ضمِّ الجولان (في العام 1981) ولا على منطقته العازلة (في العام 2024)، مقابل جعجعةٍ عربيةٍ ودوليةٍ، لم تُنتجْ طحيناً!
لذلك، لمْ ولن تتوقَّفَ مكائدُ النوايا المُبيَّتة، لإبقاء ملف التهجير حيّاً يُرزقُ، عبر حديث الثُنائي الإسرائيلي-الأميركي عن التعاون مع دُوَل جوار فلسطين، لإيجاد حلولٍ مرحليةٍ لأهالي القطاع. وبانتظار الفرصة المُناسبة لإفراغ غزَّة من أهلها، تكثُرُ المشاريعُ تحت مُسمَّياتٍ إنسانيةٍ، كإجراء هندسةٍ ديموغرافيةٍ مُحدَثَةٍ للقطاع، وإقامة مناطق خضراء ومُخيَّمات آمنةٍ، في ظلّ سياسة الترغيب والترهيب.
وبصرف النظر عمّا قيل وما سيُقالُ، في تقييم عملية “طوفان الأقصى”، وما سبَّبته من دماءٍ ودموعٍ ويبابٍ، فقد بعثت قضية فلسطين من موتها السريريّ، بقدر ما دلَّلَت على تشبُّث الفلسطيني بأرضه، وعلى إبداعه ببذل الذات، باللَّحم الحيّ، فداءً لحقٍّ مُغتصَبٍ، ما أهَّلَه لاستحقاق وسام “المُرابط المؤمن”! فالبطولاتُ إنَّما تُولدُ من رحم المُعاناة وروح العصبية. فحياةُ البداوة وشظفُ العيش، كما يقول ابن خلدون، يُفضيان إلى تحقيق الصمود والإنتصار.
إنَّ التاريخَ، ذاكرةُ الكون وحافظُ سُلالاته، طبيعةً وأُممًا، ظاهرًا وباطنًا، يُسجِّلُ عناوينَ الحِقَب والأحداث بالتفصيل والتحليل، شهادةً على الماضي وعِبرةً للحاضر واستشرافًا للمستقبل. فَلَكَمْ هضمت بُطونُه أُفولَ أُممٍ وممالكَ وامبراطورياتٍ. وَلَكَمْ شهدت تماثُلَ صعود حضاراتٍ، وهي تتعاقبُ على وِراثة سابقاتها! إنَّها دورةُ الحياة الشاهدةُ على نشوء عُصور “العُمران البشري”، بقدر شهادتها على حتمية زوالها. إلّا أنَّ الدرسَ المُستقى من هذه الدورة، إنَّما يدورُ حولَ معدن عَصَبِ الأُمم والشعوب، المُحدِّد لصمودها ولعُمر حضاراتها.
من هذا المُنطلق، تُحسِنُ المُقاومةُ الفلسطينية، إنْ توقَّفت عن تقليد إسرائيل في عصبها الديني، وتمايزت بشدِّ حزامها حول العَصَبِ الإنساني، لانَّ قضيتَها قضيةُ حقٍّ تجمعُ شتّى صنوف الهُوِيات العرقية والعصبيات الدينية والمذهبية. وإنْ فعلت، سيشهدُ التاريخُ لسموّ ونُبل قضية فلسطين، بالرُّغم ممّا لحقَ بها من تضحياتٍ، لامست حدودَ التصفية والإبادة.
إنَّ الحياةَ جهادٌ مفتوحٌ على كلّ احتمالٍ، الكلمةُ الفصل فيه تبقى لطالب الحقِّ، وإنْ كانَ للباطل فيه صولاتٌ وجولاتٌ، طالما بقي ابنُ القُدس والأقصى راسخَ الإيمان الثابت بأنَّ “على ثرى فلسطين ما يستحقُّ الحياةَ”!
- الدكتور فيكتور الزمتر هو سفير لبناني سابق.