هل سَئِمَ الأميركيون من نتنياهو؟
كابي طبراني*
لا شكّ أنَّ يكونَ ما فعله وأعلنه وحصده دونالد ترامب خلال الأيام القليلة الماضية خلال جولته الخليجية قد أرعَبَ وأقلق بنيامين نتنياهو.
إذا نظرنا إلى الأمر من ظاهره، فإنَّ جولةَ ترامب في الأيام القليلة الماضية تُشير إلى نهجٍ مختلفٍ تمامًا تجاه الشرق الأوسط، وخصوصًا تجاه الدولة التي اعتبرتها واشنطن، لعقودٍ، حليفها الرئيس في المنطقة. والحقيقة الأساسية هي الأكثر دلالةً أيضًا: أنَّ الرئيس الأميركي لم يضع إسرائيل على قائمة بلدان المنطقة التي زارها. كان من الممكن تفسير ذلك بشكلٍ آخر لولا ما قاله ترامب وفعله خلال جولاته. ففي السعودية، لم يكتفِ بتحية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بحرارة، بل أغدق عليه إعجابه. قال للأمير محمد: “أنا مُعجَبٌ بك كثيرًا”، سائلًا الحاكم الفعلي، الذي تجاهلته واشنطن سابقًا بسبب اعتماده على منشار العظام، إن وَجَدَ وقتًا للنوم، نظرًا للنشاط الذي أحدثه في تغيير وتطوير مملكته.
اتفق الرجلان على صفقةٍ ستُمكّن السعودية من الحصول على أسلحةٍ أميركية بقيمة 142 مليار دولار. حتى هذا الأسبوع، كان ضمان وتأكيد الولايات المتحدة بأن تتمتّعَ إسرائيل دائمًا بتفوُّقٍ عسكري على جيرانها حجر الزاوية في العلاقة الأميركية-الإسرائيلية. لكن هذا يبدو أقل يقينًا الآن. في الواقع، أعلن ترامب أنَّ الولايات المتحدة “ليس لديها شريكٌ أقوى” من السعودية، وهي مكانةٌ كانت حكرًا على إسرائيل وحدها.
والأهم من ذلك، أظهرَ ترامب كلَّ هذا الحب للرياض من دونِ وَضعِ أيٍّ من الشروط السابقة. لم يكن ما جرى مشروطًا بـ”تطبيع” العلاقات السعودية مع إسرائيل. قال ترامب إنَّ الأمير محمد قادرٌ على فعل ذلك عندما يكون حاضرًا ومستعدًا، بعيدًا من الضغوط الأميركية.
لقد وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على الدوام الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأنه أفضلُ صديقٍ لإسرائيل في البيت الأبيض، وهو وصفٌ ردّده ترامب نفسه أيضًا. لكن بينما كان ترامب يقوم بجولةٍ في دول الخليج الثرية خلال الأسبوع الفائت، كان الإسرائيليون يُراقبون من على بُعدِ مئات الكيلومترات فقط ما يجري، متسائلين عن مدى قلقهم بشأن علاقتهم بالرئيس الأميركي.
ما كان في السابق مهرجانًا للحب تحوَّلَ إلى فتور، مُثيرًا قلق الإسرائيليين بشأن سبب هذا التغيير وما يُنذِرُ به وما ستكون تداعياته. هل طفحَ الكَيلُ لدى ترامب من نتنياهو، كما فعل معظم الإسرائيليين، أم أنه يبتعد من إسرائيل نفسها؟
هل هذا التحوُّل مسألة شخصيات، أم أنه نتاجُ صراعٍ إيديولوجي داخل إدارة ترامب، بين شخصيات “جَعل أميركا عظيمة مجدَّدًا” (ماغا) الانعزالية المُتشَكِّكة في دعم الولايات المتحدة لإسرائيل، وشخصيات مُتشدّدة تعتقدُ أنَّ إسرائيل حليفٌ رئيس، وقوتها تُفيدُ الولايات المتحدة أيضًا؟
أم أنَّ الأسوأ من ذلك، هل كان تقاربُ ترامب مع إسرائيل دائمًا حيلةً لتحقيق مكاسب سياسية، وليس قناعةً راسخة؟
في حين أنَّ الإجابات عن هذه الأسئلة لا تزالُ غامضة، فإنَّ حدوثَ تغييرٍ ما في الواقع أمرٌ لا شكَّ فيه.
لا يقتصرُ الأمرُ على جولة ترامب في الشرق الأوسط وتجاهله لإسرائيل، أقرب حليف لواشنطن في المنطقة. بل يتجاوزُ ذلك بكثير. فقد أثارت سلسلةٌ من القرارات والأحداث خلال الأسابيع القليلة الماضية قلقًا في الدولة العبرية وعدم ارتياحٍ بين مؤيديها داخل أميركا وخارجها.
لقد ازدادَ عددُ الخلافات الاستراتيجية والتكتيكية بين نتنياهو وترامب على جبهاتٍ متعددة لدرجةٍ أنَّ نتنياهو قال أمام لجنةٍ أمنية برلمانية أخيرًا أنَّ الوقتَ قد حان لإسرائيل “لفَطمِ” نفسها عن اعتمادها على “حليب” المساعدات العسكرية الأميركية.
الواقع أن ترامب يُخبِرُ نتنياهو هنا، بأعلى صوتٍ ووضوح، أنه لم يعد الرقم واحد أو الزعيم الأول بالنسبة إلى واشنطن في المنطقة، وأنه لن يستطيع الإعتراض على أيِّ قرارٍ يتّخذه ترامب بما يخدم مصالح الولايات المتحدة ومصالحه. وينبعُ جُزءٌ من هذا الإحباط من نتنياهو لفشله في أداء دوره في تحقيق الاستقرار، وبالتالي الرخاء، في الشرق الأوسط، وهو ما يعتقد ترامب أنه مُمكِنٌ ومُربحٌ للولايات المتحدة. ببساطة، ما يريده ترامب من نتنياهو هو إنهاء الحرب على “حماس” وإبعادها عن شاشات التلفزيون العالمية – ورئيس الوزراء الإسرائيلي لا يَفي بوعوده.
يمكنُ سماعُ هذا الإحباط في تصريحات المبعوث الشخصي لترامب، ستيف ويتكوف، لعائلات الرهائن في إسرائيل في الأسبوع الفائت: “نريد إعادة الرهائن إلى ديارهم، لكن إسرائيل غير مستعدة لإنهاء الحرب. إسرائيل تُطيل أمدها”.
في الواقع، تُظهر استطلاعات الرأي أنَّ غالبيةً ساحقة من الجمهور الإسرائيلي حريصة، إن لم تكن يائسة، على رؤية نهاية فورية للحرب. لكن نتنياهو يتحدّى مواطنيه لأسبابٍ أنانية بحتة. في محاكمته بتهمة الفساد، لن يكونَ بمقدوره ضمان بقائه خارج السجن إلّا إذا بقي في رئاسة الوزراء. ولتحقيق ذلك، عليه الحفاظ على ائتلافه الحاكم، والتحالف مع المُتَطَرِّفَين إيتامار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش. يريد هذان الرجلان استمرارَ الحرب، ويحلمان بغزة خالية من السكان لإعادة المستوطنات اليهودية. ومن جهته، لا يُفكّرُ نتنياهو إلّا في بقائه، فيخضع لمطالبهما ويُبقي نيران الحرب مشتعلة – مهما كانت الخسائر البشرية.
لكن خلافات ترامب ونتنياهو تمتدُّ إلى ما هو أبعد من غزة. في السادس من أيار (مايو)، على سبيل المثال، وبعد 48 ساعة فقط من محاولة الحوثيين في اليمن قصف مطار بن غوريون في تل أبيب بصاروخٍ باليستي، أعلن الرئيس الأميركي عن اتفاقٍ مع الجماعة المدعومة من إيران لوقفِ حملة القصف الأميركية التي كان تعهّد بمواصلتها حتى القضاء عليها. وأوضح أنَّ الحوثيين وافقوا على التوقُّف عن استهداف السفن الأميركية، وهو ما كان كافيًا بالنسبة إليه. وأشار ترامب إلى أنَّ تأكيد الجماعة على نيّتها مواصلة مهاجمة إسرائيل طالما استمرّت الحرب في غزة هو أمرٌ لا يعنيه.
أثار الاتفاق قلقًا في إسرائيل، حيث اعتُبِرَ تخلّيًا عنها. لكنَّ السفير الأميركي الجديد هناك، مايك هاكابي، رَدَّ بقوة قائلًا إنَّ واشنطن “ليست مُلزَمة بالحصول على إذنٍ” من إسرائيل لإبرامِ صفقةٍ مع الحوثيين أو غيرهم.
قبل شهرٍ، في السابع من نيسان (أبريل)، وبعد إعلان ترامب عن رسومه الجمركية الشاملة المُثيرة للجدل وحربه التجارية العالمية، سافر نتنياهو إلى البيت الأبيض على أمل الحصول على إعفاءٍ لإسرائيل. لكن بدلًا من ذلك، تحوَّلَ اجتماع المكتب البيضاوي إلى اجتماع مُهين للزعيم الإسرائيلي. لم يكتفِ ترامب بعدم إلغاء رفع الرسوم الجمركية، بل انتهزَ الفرصة ليُعلِن بدء المفاوضات مع إيران بشأن برنامجها النووي، مما فاجأ نتنياهو.
يَنظُرُ الإسرائيليون إلى مسألة البرنامج النووي الإيراني على أنها مسألة وجودية. كان نتنياهو والعديد من الإسرائيليين يأملون أن يكون ترامب هو الرئيس الأميركي الذي سيُعطي الضوء الأخضر أخيرًا لعمليةٍ عسكريةٍ ضد المنشآت النووية للنظام الإيراني. بدلًا من ذلك، تمضي مفاوضات واشنطن مع طهران قُدُمًا. في مرحلةٍ ما، قال المفاوض الأميركي ستيف ويتكوف إنَّ الولايات المتحدة ستسمح لإيران بالحفاظ على قدرات تخصيب اليورانيوم مُنخَفِض المستوى للاستخدامات المدنية، وهو خطٌّ أحمر إسرائيلي وضعته تل أبيب منذ أمدٍ طويل. وعلى الرُغم من أنَّ ويتكوف تراجع لاحقًا عن التصريح، إلّا أنه كان سببًا آخر للقلق في إسرائيل، خصوصًا وأنَّ إيران تصرُّ على أنَّ التصريحات العلنية لإدارة ترامب تختلفُ عما تقوله في المحادثات المُغلَقة. ومما زاد من استياء إسرائيل، إقالة مايك والتز، أحد أكثر أعضاء إدارة ترامب تشدُّدًا، من منصبه كمستشار للأمن القومي، لأنه كان يُنسّقُ مع نتنياهو لمحاولة الضغط و إقناع ترامب باتخاذ المسار العسكري تجاه إيران.
وتُوِّجَت سلسلة الإهانات بقرار ترامب عدم زيارة إسرائيل في زيارته للمنطقة الأسبوع الفائت، ما أجبر هاكابي على تخفيف لهجته لتهدئة القلق الإسرائيلي. وقد قام هاكابي بجولة مقابلات في برامج تلفزيونية إسرائيلية عدة قبل زيارة ترامب، قائلًا للإسرائيليين: “إهدَؤوا، إهدَؤوا. دونالد ترامب يحبكم”.
لكنَّ الإسرائيليين لم يعودوا على يقين من ذلك. فقد تحدث الصحافي باراك رافيد عن “مشاكل ثقة” بين نتنياهو وترامب. وقالت المُحللة دانا فاهن لوزون إنَّ رسالة ترامب إلى نتنياهو هي: “عزيزي، لقد سئمتُ منك”.
لكن يبقى السؤال: هل تكمن المشكلة في العلاقة بين الزعيمَين؟ أم أنَّ التزامَ ترامب بالدفاع عن إسرائيل قد تراجع؟
كتب المحلل أميت سيغال على موقع “X” أنَّ الرسالة المُوجَّهة للمنطقة من هدنة ترامب مع الحوثيين هي: “هاجموا إسرائيل، واتركونا نحن الأميركيين وشأننا”. وأضاف سيغال: “لو كنتُ إيرانيًا، لفَسّرتها بهذه الطريقة”.
والآن، وبينما أنهى ترامب جولته الشرق أوسطية، تشير التقارير إلى تخلّيه عن أحد الأهداف البالغة الأهمية ليس فقط لنتنياهو، بل لجميع الإسرائيليين: تأمين العلاقات الديبلوماسية بين إسرائيل وأهم دولة عربية إسلامية في العالم، المملكة العربية السعودية.
يرغب نتنياهو في أن يكون الزعيم الذي تُقيم السعودية وإسرائيل تحت قيادته علاقات رسمية، مما يُرسّخ قبول إسرائيل في المنطقة، وهو أمرٌ تطمح إليه منذ تأسيسها في العام 1948. يُمثّل هذا الهدف أولوية قصوى لرئيس الوزراء الإسرائيلي، وذلك لأنه يُدرك مدى أهميته للدولة العبرية بأكملها.
خلال ولاية ترامب الأولى، وكذلك خلال السنوات الأربع التي قضاها الرئيس السابق جو بايدن في منصبه، اشترطت الولايات المتحدة إقامة علاقات بين السعودية وإسرائيل لتوسيع تحالفها العسكري، وكذلك للمساعدة الأميركية في إنشاء برنامج نووي مدني في المملكة. لكن السعودية تقول إنها لن تُطبّعَ العلاقات ما لم تُحدّد إسرائيل مسارًا فعليًا نحو دولة فلسطينية، وهو أمرٌ يرفضه نتنياهو وائتلافه اليميني المتطرف. والآن، أفادت التقارير أنَّ ترامب أسقط شرط الاعتراف الديبلوماسي السعودي بإسرائيل، مما فصل هذه القضية عن العلاقات الأمنية الأميركية مع الرياض.
وكأنما لتوضيح مدى القطيعة بين الجانبين، أفرجت “حماس” يوم الاثنين الفائت عن الرهينة الأميركي-الإسرائيلي عيدان ألكسندر بعد مفاوضاتٍ مباشرة مع البيت الأبيض لم يَستَشِر فيها ترامب حكومة نتنياهو. وبينما ابتهجَ زعيم المعارضة يائير لابيد بتحرير ألكسندر، انتقد رئيس الوزراء بشدة، قائلًا: “لقد سئم الأميركيون من نتنياهو”.
ومنذ ذلك الحين، يتساءل المراقبون الإسرائيليون عما قد قدمته أو ستقدمه إدارة ترامب ل”حماس” مقابل إطلاق سراح ألكسندر. كما يدرسون تداعيات إعلان ترامب المفاجئ عن رفع العقوبات الأميركية عن سوريا وإشادته بالزعيم الجديد للبلاد ووصفه بأنه “جذاب” و”مقاتل”. وبالنظر إلى أنَّ أحمد الشرع كان حتى كانون الأول (ديسمبر) على قائمة الولايات المتحدة للإرهابيين المطلوبين بسبب صلاته بتنظيم “القاعدة”، وكانت هناك مكافأة قدرها 10 ملايين دولار على رأسه، فإنَّ هذا يمثل تحوُّلًا كبيرًا. وتأكيدًا على أنَّ إحدى نقاط ضعف ترامب الكبيرة كمفاوض هي ميله إلى تقديمِ شيءٍ مقابل لا شيء، سلّمَ ترامب كل هذا إلى الشرع بدون حتى إثارة الضمانات الأمنية التي تسعى إليها إسرائيل.
مع اختتام ترامب جولته في دول الخليج الغنية، قد تكون هناك مفاجآت أخرى ما زالت في جعبته. بغض النظر عن ذلك، فبعد عودة ترامب إلى واشنطن بفترةٍ طويلة، سيتساءل الإسرائيليون عمّا إذا كان يتجاهل رئيس وزرائهم فحسب، أم أنه أصبح أقل اهتمامًا بأمنهم.
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على: @GabyTabarani