مَن يُقَرِّرُ مُستَقبَلَ سوريا الشرع أم إسرائيل؟
كابي طبراني*
تَعيشُ سوريا ثلاثة وُقُوع. الواقع الأول تشهده البلاد على مستوى الديبلوماسية العليا، حيث يُلاحَظُ أنَّ هناكَ تغييرًا مهمًّا عن عهد بشار الأسد. في وقتٍ سابق من الأسبوع الفائت، تحدّث وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني مع مسؤولين في وزارة الخارجية الأميركية في نيويورك، وهي المرة الأولى التي يلتقي فيها الشيباني شخصياتٍ أميركية رسمية. جاءَ الاجتماعُ بعد أن رَفَعَ الشيباني عَلَمَ سوريا الجديد في الأمم المتحدة. قبل أيامٍ فقط، أعلنت المملكة العربية السعودية وقطر عن عزمهما على تسوية ديون سوريا للبنك الدولي والبالغة حوالي 15 مليون دولار. قبلها بأسبوع، رفعت المملكة المتحدة شريحةً من العقوبات، بما فيها تلك المفروضة على قطاعات الدفاع والمالية والطاقة، في خطوةٍ مهمّةٍ نحو إنعاشِ اقتصاد البلاد.
مع ذلك، تَبرُزُ، في الواقع الثاني، تحدّياتٌ خطيرة داخلية في شوارع حمص ودمشق ومناطق أخرى من سوريا، حيثُ يُهدّدُ اندلاعٌ جديدٌ للعنف الطائفي، والذي يشملُ هذه المرة مقاتلين دروزًا ومسلَّحين متحالفين مع “هيئة تحرير الشام” التابعة للرئيس أحمد الشرع ومُسَلَّحين مجهولين، بدفع البلاد إلى أزمةٍ شاملةٍ أخرى.
اندلعت الاشتباكات أوّلًا في في ضاحية جرمانا جنوب دمشق، قبل وصولها إلى صحنايا في الغوطة الغربية، وحصدت حوالي مئة قتيل، بعدَ انتشارِ مقطعٍ صوتي على مواقع التواصل الاجتماعي لرجلٍ ينتقدُ النبي محمد. ونُسِبَ المقطعُ الصوتي إلى رجلِ دينٍ درزي. لكنَّ رجلَ الدين مروان كيوان نفى في مقطع فيديو نُشِرَ على مواقع التواصل الاجتماعي مسؤوليته عن المقطع الصوتي الذي أثار غضب الكثير من المسلمين السنّة. في بلدٍ هَشٍّ استغلّ فيه النظام السابق الاختلافات بين الطوائف الدينية والعرقية، يُثبتُ انتشارُ مثل هذه المعلومات المُضَلّلة أنه مُميت. ولكنَّ الآمالَ في أن تتمكنَ قوات الأمن من استعادة النظام بسرعة لا بُدَّ وأن تتراجع في ضوء حقيقةٍ مفادها أنّ سوريا لم تَمضِ سوى شهرين على اندلاعِ أعمالِ عنفٍ مُماثلة مثيرة للقلق.
كان ينبغي أن تكونَ سلسلة هجمات آذار (مارس) على الساحل السوري، والتي أودت بحياة ما يقرب من 1400 مدني -معظمهم من الأقلية العلوية- بمثابة اللحظة المناسبة للحكومة لضمانِ محاسبة مَن تُثبِتُ إدانتهم بارتكاب جرائم. ورُغمَ بعض الخطوات الأولية، لم تكن هذه العملية سريعة بما يكفي.
بدلًا من ذلك، لا يزال المزيج الطائفي الهَشّ في البلاد عُرضةً بشكلٍ مؤلم لهجماتٍ من مزيجٍ من أمراء الحرب المحلّيين والمقاتلين الأجانب، وحتى للتلاعُب الخارجي في شكلِ تدخُّلات عسكرية إسرائيلية، مُتخفيةً تحت ستار حماية المجتمعات الدرزية. إضافةً إلى ذلك، فإنَّ العمل الجاد الذي قامت به الإدارة السورية الجديدة لاستعادة العلاقات مع جيرانها مثل لبنان والعالم العربي الأوسع وأوروبا والولايات المتحدة، مُعرَّضٌ للخطر بسبب مشهد المسلّحين وهم يتبادلون إطلاق النار في ضواحي المدن والبلدات السورية. ولضمان دعم دولي مستدام لمشروع سوريا في تحقيق الاستقرار في البلاد، لا يجب وقف هذا العنف فحسب، بل يجب القضاء عليه نهائيًا.
أما الواقع الثالث والأخطر هو إسرائيل.
تُواصِلُ إسرائيل شنّ ضرباتٍ مُحدّدة وقوية في عمق الأراضي السورية. الهدفُ المُعلَن هو منع أيّ جهةٍ من استغلال جغرافية سوريا لإنشاءِ موطئ قدمٍ مُسلّح أو حشدِ أسلحةٍ قد تُشكّل تهديدًا لأمن إسرائيل، بما في ذلك الوجود العسكري التركي. من وجهة النظر الإسرائيلية، لا ينبغي أن يُتَرجَمَ إخراجُ إيران من سوريا إلى دخولِ تركيا مكانها. لذا، فإنّ ما تسعى إليه الدولة العبرية اليوم يتجاوز تأمين حدودها المباشرة، ويهدف إلى إعادة تشكيل أمن سوريا وجغرافيتها وتوجُّهها السياسي بشكلٍ كامل.
إلّا أنّ هذا التصعيد لا يقتصرُ على سوريا. إنّ تجدُّدَ الحرب في غزة، والجهود المبذولة لتغيير الديناميكيات في الضفة الغربية، والعمليات الجارية في لبنان، كلّها تُشيرُ إلى مرحلةٍ أوسع من التصعيد تتجاوزُ مُجرّد الموافقة الأميركية، وتقتربُ من التدخّل الأميركي المُباشر. تتدخّل واشنطن الآن مُباشرةً في اليمن، وتُشنّ ضرباتٍ ضد الحوثيين، بل وتُوجّه تهديداتٍ غير مسبوقةٍ بعملٍ عسكريٍّ ضدّ إيران. من المرجح أن يُجبِرَ هذا التصعيد الأميركي طهران على السعي إلى خفض التصعيد عبر أحد مسارين: إما عبر المرونة الديبلوماسية والحوار (الجاريين حاليًا)، أو بتكثيفِ المواجهة غير المباشرة عبر الجبهات المجاورة لإسرائيل. وتوقُّعًا لذلك، تُعزّزُ تل أبيب هذه الجبهات استباقيًا، وقد يمتدُّ نفوذها إلى ساحاتٍ أبعد كالعراق، لمنع استخدامه في عمليات مستقبلية تستهدف إسرائيل.
كما يُشيرُ الضغطُ الإسرائيلي المتزايد على سوريا إلى نيّةٍ واضحة لإعادة رسم الخريطة السياسية السورية. تُمثّلُ هذه الاستراتيجية اختبارًا حاسمًا للقيادة السورية الجديدة: كيفية الرد على الموقف الإسرائيلي المُكثَّف، في ظل خيارات استراتيجية محدودة للغاية. قد تبدو فكرة تأمين الدعم الإقليمي من تركيا معقولة نظريًا، لكن عمليًا، في ظل التصعيد الحالي واصطفاف واشنطن الواضح مع السياسات الإسرائيلية، يبقى هذا مُستبعَدًا. ويتّضحُ هذا الأمر أكثر مع استهداف إسرائيل المباشر لمناطق داخل سوريا كانت تركيا قد أعربت سابقًا عن رغبتها في تحويلها إلى قواعد عسكرية. وجاء ردُّ أنقرة عبر وزير الخارجية هاكان فيدان، الذي صرّح بأنَّ تركيا لا تسعى إلى مواجهة مع إسرائيل في سوريا. وذهب أبعد من ذلك، مشيرًا إلى أنه إذا رغبت دمشق في السعي إلى “تفاهمات مُعَيَّنة” مع إسرائيل، فإن ذلك يبقى من اختصاص سوريا.
مع تضييق الخيارات الإقليمية وعدم موثوقية التحالفات الدولية، قد يجد النظام السوري الجديد نفسه مضطرًا إلى السعي إلى تفاهمات مباشرة مع الولايات المتحدة. لكن الموقف الأميركي من سوريا لا يزال غامضًا، واستمرارُ العقوبات يزيد من تعقيد المشهد. في هذا السياق، قد يبدو القبول الأميركي السبيل الوحيد القابل للتطبيق للمضي قدمًا بالنسبة إلى دمشق. ومع ذلك، يبقى السؤال الحاسم: ماذا تريد واشنطن من النظام السوري؟ من إصلاحاتِ السياسة الداخلية إلى ما ألمح إليه المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف أخيرًا، وهو إمكانية ضم سوريا ولبنان إلى اتفاقيات أبراهام، فإنَّ نطاقَ التوقّعاتِ واسعٌ وذو وزنٍ سياسي كبير.
لذا، في الوقت الذي أصبح التهديد المُوَجَّه إلى إيران أميركيًا بامتياز وليس إسرائيليًا فحسب، تستغلُّ إسرائيل استراتيجيتها التصعيدية الخاصة لرَسمِ واقعٍ جديد على الأرض. حتى فكرة إعادة تعريف العلاقات مع جيرانها من خلال اتفاقيات سلام، بما في ذلك سوريا ولبنان، لا تروق لإسرائيل حاليًا. لماذا تفعل ذلك وهي تُطبّق إرادتها بفعالية بدون الحاجة إلى تبريرٍ ديبلوماسي؟ مع ذلك، إذا نجحت إسرائيل في ترسيخ هذا الواقع الجديد، فقد تُصبح اتفاقيات السلام لاحقًا أداةً لإضفاء الطابع الرسمي على ما هو قائم، لا بالتفاوض، بل بالقوة.
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على: @GabyTabarani