كيفَ سيُعيدُ الذكاء الاصطناعي صياغة التجسّس في أميركا
مع مواجهة الولايات المتحدة منافسة متزايدة لتشكيل مستقبل النظام العالمي، فمن الضروري أن تستفيد وكالات الاستخبارات والجيش من ابتكار البلاد وقيادتها في مجال الذكاء الاصطناعي، مع التركيز بشكل خاص على نماذج اللغة الكبيرة، لتوفير معلومات أسرع وأكثر صلة لصنّاع السياسات.

آن نيوبيرغر*
في أوائل الخمسينيات من القرن العشرين، واجهت الولايات المتحدة تحدّيًا استخباراتيًا حاسمًا في منافستها المتنامية مع الاتحاد السوفياتي. لم تَعُد صور الاستطلاع الألمانية القديمة من الحرب العالمية الثانية قادرة على توفير معلومات استخباراتية كافية حول القدرات العسكرية السوفياتية، ولم تعد قدرات المراقبة الأميركية الموجودة آنذاك قادرة على اختراق المجال الجوي المغلَق للاتحاد السوفياتي. حفّزَ هذا النقص مبادرةً جريئة: تطوير طائرة الاستطلاع “يو-2” (U-2). في غضون بضع سنوات فقط، كانت مهام “U-2” تقدم معلومات استخباراتية حيوية، وتلتقط صورًا لمنشآت الصواريخ السوفياتية في كوبا وتنقل رؤى شبه حقيقية من خلف الستار الحديدي إلى المكتب البيضاوي.
اليوم، تقف الولايات المتحدة عند مفترق طرق مُماثل. فالمنافسة بين واشنطن ومنافسيها حول مستقبل النظام العالمي تشتد، والآن، كما كانت الحال في أوائل الخمسينيات الفائتة، يتعيّن على أميركا أن تستفيدَ من قطاعها الخاص من الطراز العالمي وقدرتها الوافرة على الابتكار للتغلب على خصومها. ويتعيَّن على مجتمع الاستخبارات الأميركي أن يستغلَّ مصادر القوة في البلاد لتقديم رؤى لصنّاع السياسات بسرعة عالم اليوم. ويوفّرُ دمج الذكاء الاصطناعي، وخصوصًا من خلال نماذج اللغة الكبيرة، فرصًا رائدة لتحسين عمليات الاستخبارات والتحليل، وتمكين تقديم الدعم الأسرع والأكثر صلة لصنّاع القرار. ومع ذلك، تأتي هذه الثورة التكنولوجية مع سلبياتٍ كبيرة، وبخاصة مع استغلال الخصوم للتقدّم المماثل لكشف عمليات الاستخبارات الأميركية ومواجهتها. ومع سباق الذكاء الاصطناعي الجاري، ينبغي على الولايات المتحدة أن تتحدّى نفسها لتكون الأولى ــ الأولى في الاستفادة من الذكاء الاصطناعي، الأولى في حماية نفسها من الأعداء الذين قد يستخدمون التكنولوجيا للضرر، والأولى في استخدام الذكاء الاصطناعي بما يتماشى مع قوانين وقيم الديموقراطية.
بالنسبة إلى مجتمع الأمن القومي الأميركي، فإنَّ الوفاءَ بالوعد وإدارة خطر الذكاء الاصطناعي سيتطلّب تغييرات تكنولوجية وثقافية عميقة واستعدادًا لتغيير الطريقة التي تعمل بها الوكالات. يمكن لمجتمعات الاستخبارات والجيش الأميركية الاستفادة من إمكانات الذكاء الاصطناعي مع تخفيف مخاطرها المتأصّلة، وضمان احتفاظ الولايات المتحدة بميزتها التنافسية في مشهد عالمي سريع التطور. وحتى في الوقت الذي تفعل ذلك، يجب على الولايات المتحدة أن تنقل بشفافية إلى الجمهور الأميركي، وإلى السكان والشركاء في جميع أنحاء العالم، كيف تنوي البلاد استخدام الذكاء الاصطناعي بشكلٍ أخلاقي وآمن، بما يتوافق مع قوانينها وقيمها.
المزيد، والأفضل، والأسرع
تكمن إمكانات الذكاء الاصطناعي في إحداثِ ثورة في مجتمع الاستخبارات في قدرته على معالجة وتحليل كميات هائلة من البيانات بسرعات غير مسبوقة. قد يكون من الصعب تحليل كميات كبيرة من البيانات المُجمَّعة لتوليد تحذيرات حساسة للوقت. إنَّ أجهزة الاستخبارات الأميركية قادرة على الاستفادة من قدرات التعرّف على الأنماط التي تتمتع بها أنظمة الذكاء الاصطناعي لتحديد وتنبيه المحللين البشريين إلى التهديدات المحتملة، مثل إطلاق الصواريخ أو التحركات العسكرية، أو التطورات الدولية المهمة التي يعرف المحللون أنَّ كبار صناع القرار الأميركيين مهتمّون بها. ومن شأن هذه القدرة أن تضمن أن تكون التحذيرات الحاسمة في الوقت المناسب وقابلة للتنفيذ وذات صلة، مما يسمح باستجابات أكثر فعالية لكلٍّ من التهديدات الناشئة بسرعة وفرص السياسة الناشئة. وتعمل النماذج المتعددة الوسائط، التي تدمجُ النصوص والصور والصوت، على تعزيز هذا التحليل. على سبيل المثال، يمكن أن يوفِّر استخدام الذكاء الاصطناعي للمقارنة بين صور الأقمار الاصطناعية واستخبارات الإشارات رؤية شاملة للحركات والتحركات العسكرية، مما يتيح تقييمات أسرع وأكثر دقة للتهديدات ووسائل جديدة محتملة لتوصيل المعلومات إلى صنّاع السياسات.
إنَّ المحلّلين الاستخباراتيين قادرون أيضًا على تفريغ المهام المُتكرّرة والمستهلكة للوقت على الآلات للتركيز على العمل الأكثر إشباعًا: توليد تحليلٍ أصلي وأعمق، وزيادة رؤى مجتمع الاستخبارات الشاملة والإنتاجية. من الأمثلة الجيدة على ذلك ترجمة اللغات الأجنبية. فقد استثمرت وكالات الاستخبارات الأميركية في وقت مبكر في القدرات التي تعمل بالذكاء الاصطناعي، وقد أثمرت الرهانات. فقد أصبحت قدرات نماذج اللغة أكثر تعقيدًا ودقة ــ فقد أظهرت نماذج o1 وo3 التي أصدرتها شركة “OpenAI” أخيرًا تقدّمًا كبيرًا في الدقة والقدرة على التفكير المنطقي ــ ويمكن استخدامها لترجمة وتلخيص النصوص والملفات الصوتية والفيديو بسرعة أكبر.
ورُغمَ أنَّ التحدّيات لا تزال قائمة، فإنَّ الأنظمة المستقبلية المُدرَّبة على كميات أكبر من البيانات غير الإنكليزية قد تكون قادرة على تمييز الاختلافات الدقيقة بين اللهجات وفهم معنى وسياق الثقافة العامية أو الميمات على الإنترنت. ومن خلال الاعتماد على هذه الأدوات، يمكن لمجتمع الاستخبارات أن يُركّز على تدريب مجموعة من اللغويين المتخصّصين للغاية، والذين قد يكون من الصعب العثور عليهم، وغالبًا ما يكافحون من أجل اجتياز عملية التخليص، ويستغرق تدريبهم وقتًا طويلًا. وبطبيعة الحال، من خلال توفير المزيد من المواد باللغات الأجنبية عبر الوكالات المناسبة، ستتمكن أجهزة الاستخبارات الأميركية من فرز جبل المعلومات الاستخباراتية الأجنبية التي تتلقاها بسرعة أكبر لانتقاء الإبر في كومة القش التي تهمُّ حقًا.
لا يُمكنُ التقليل من قيمة هذه السرعة لصنّاع السياسات. يمكن للنماذج غربلة مجموعات بيانات الاستخبارات والمعلومات مفتوحة المصدر والاستخبارات البشرية التقليدية بسرعة وإنتاج ملخصات مسودة أو تقارير تحليلية أوّلية يمكن للمحلّلين التحقّق منها وتحسينها، مما يضمن أن تكون المنتجات النهائية شاملة ودقيقة. يمكن للمحللين التعاون مع مساعد الذكاء الاصطناعي المتقدِّم للعمل من خلال المشاكل التحليلية واختبار الأفكار والعصف الذهني بطريقةٍ تعاونية، وتحسين كل تكرار لتحليلاتهم وتقديم الاستخبارات النهائية بسرعة أكبر.
لنتأمل هنا تجربة إسرائيل في كانون الثاني (يناير) 2018، عندما اقتحم جهاز استخباراتها، الموساد، سرًّا منشأة إيرانية سرية وسرق نحو 20% من الأرشيفات التي تُفصّلُ الأنشطة النووية الإيرانية بين العامين 1999 و2003. ووفقًا لمسؤولين إسرائيليين، جمع الموساد نحو 55 ألف صفحة من الوثائق و55 ألف ملف آخر مُخزَّنة على أقراصٍ مضغوطة، بما في ذلك الصور ومقاطع الفيديو ــ وكلها تقريبا باللغة الفارسية. وبمجرّد الحصول على الأرشيف، مارس كبار المسؤولين ضغوطًا هائلة على المتخصّصين في الاستخبارات لإنتاجِ تقييماتٍ مُفصّلة لمحتواه وما إذا كان يشير إلى جهد مستمر لبناء قنبلة إيرانية. لكنَّ الأمرَ استغرقَ من هؤلاء المحترفين أشهرًا عدة ــومئات الساعات من العمل ــ لترجمة كل صفحة، ومراجعتها يدويًا بحثًا عن المحتوى ذي الصلة، ودمج هذه المعلومات في التقييمات. وبفضل قدرات الذكاء الاصطناعي اليوم، كان من الممكن إنجاز الخطوتين الأوليين في هذه العملية في غضون أيام، وربما حتى ساعات، مما يسمح للمحللين فهم المعلومات الاستخباراتية ووضعها في سياقها بسرعة.
ومن بين التطبيقات الأكثر إثارةً للاهتمام الطريقة التي قد يعمل بها الذكاء الاصطناعي على تحويل كيفية استهلاك صنّاع السياسات للمعلومات الاستخباراتية، وتمكينهم من التفاعل مباشرة مع تقارير الاستخبارات من خلال منصات شبيهة بـ”ChatGPT”. ومن شأن هذه القدرات أن تسمح للمستخدمين طرح أسئلة محددة وتلقّي معلومات موجزة وذات صلة من آلاف التقارير مع الاستشهاد بالمصادر، مما يساعدهم على اتخاذ قرارات مستنيرة مبنية على معلومات بسرعة.
عالم جديد شجاع
إنَّ الذكاء الاصطناعي يقدّم فوائد عديدة، ولكنه يفرض أيضًا مخاطر جديدة كبيرة، وخصوصًا مع تطوير الخصوم لتقنيات مماثلة. إنَّ التقدُّم الذي أحرزته الصين في مجال الذكاء الاصطناعي، وبخاصة في مجال الرؤية الحاسوبية والمراقبة، يهدد عمليات الاستخبارات الأميركية. ولأنَّ البلاد يحكمها نظامٌ استبدادي، فإنها تفتقر إلى قيود الخصوصية وحماية الحريات المدنية. وهذا العجز يمكّن ممارسات جمع البيانات على نطاق واسع والتي أسفرت عن مجموعات بيانات ذات حجم هائل. يتم تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي المعتمدة من قبل الحكومة على كميات هائلة من البيانات الشخصية والسلوكية التي يمكن استخدامها بعد ذلك لأغراض مختلفة، مثل المراقبة والسيطرة الاجتماعية. إنَّ وجودَ شركات صينية، مثل “هواوي”، في أنظمة الاتصالات والبرمجيات في جميع أنحاء العالم من شأنه أن يوفر للصين إمكانية الوصول بسهولة إلى البيانات الضخمة، وخصوصًا الصور الضخمة التي يمكن استخدامها لتدريب نماذج التعرّف على الوجه، وهو مصدر قلق خاص في البلدان التي توجد فيها قواعد عسكرية أميركية كبيرة. يجب على مجتمع الأمن القومي الأميركي أن ينظر في الكيفية التي يُمكِن بها للنماذج الصينية المبنية على مثل هذه المجموعات الواسعة من البيانات أن تمنح الصين ميزة استراتيجية.
ولا يقتصرُ الأمر على الصين. إنَّ انتشار نماذج الذكاء الاصطناعي “مفتوحة المصدر”، مثل “لاما” التابعة ل”ميتا” وتلك التي أنشأتها شركة ميسترال الفرنسية للذكاء الاصطناعي والشركة الصينية “ديب سيك”، يضع قدرات الذكاء الاصطناعي القوية في أيدي المستخدمين في جميع أنحاء العالم بتكاليف معقولة نسبيًا. الكثيرون من هؤلاء المستخدمين حميدون وجيدون، ولكن بعضهم ليس كذلك – بما في ذلك الأنظمة الاستبدادية، والمتسللين السيبرانيين، والعصابات الإجرامية. تستخدم هذه الجهات الخبيثة نماذج لغوية كبيرة لتوليد ونشر محتوى كاذب وخبيث بسرعة أو لشنِّ هجمات سيبرانية. وكما شهدنا مع تقنيات أخرى مُتعلّقة بالاستخبارات، مثل قدرات اعتراض الإشارات والطائرات المُسَيَّرة، فإنَّ الصين وإيران وروسيا ستكون لديها كل الحوافز لمشاركة بعض اختراقاتها في مجال الذكاء الاصطناعي مع الدول العميلة والجماعات دون الوطنية، مثل “حزب الله” و”حماس” وشركة “فاغنر” شبه العسكرية، وبالتالي زيادة التهديد للولايات المتحدة وحلفائها.
الواقع أنَّ نماذج الذكاء الاصطناعي التي يستخدمها الجيش الأميركي والمجتمع الاستخباراتي سوف تصبح أهدافًا جذابة للخصوم. ومع تزايد قوتها وازدهارها في صنع القرار المتعلق بالأمن القومي الأميركي، سوف تصبح أنظمة الذكاء الاصطناعي الاستخباراتي أصولًا وطنية بالغة الأهمية لا بدَّ من الدفاع عنها ضد الخصوم الذين يسعون إلى المساس بها أو التلاعب بها. ويتعيّن على مجتمع الاستخبارات أن يستثمر في تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي الآمنة وفي وضع معايير “العمل الجماعي” والتقييم المستمر للحماية من التهديدات المحتملة. ويمكن لهذه الفرق استخدام الذكاء الاصطناعي لمحاكاة الهجمات، وكشف نقاط الضعف المحتملة وتطوير استراتيجيات للتخفيف منها. وسوف تكون التدابير الاستباقية، بما في ذلك التعاون مع الحلفاء والاستثمار في تكنولوجيات مكافحة الذكاء الاصطناعي، ضرورية.
الوضع الطبيعي الجديد
لا يُمكِن التخلُّص من هذه التحديات بالتمنّي. والانتظار لفترة طويلة جدًا حتى تنضج تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي بشكلٍ كامل يحمل في طياته مخاطره الخاصة؛ وسوف تتخلّف قدرات الاستخبارات الأميركية عن قدرات الصين وروسيا وغيرهما من القوى التي تمضي قدما بكامل قوتها في تطوير الذكاء الاصطناعي. ولضمان استمرار الاستخبارات ــسواء كانت تحذيرات حساسة للوقت أو رؤى استراتيجية أطول أجلًاــ في كونها ميزة للولايات المتحدة وحلفائها، يتعّين على مجتمع الاستخبارات في البلاد أن يتكيّف ويبتكر. ويتعين على أجهزة الاستخبارات أن تُتقنَ بسرعة استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي وتجعل منه عنصرًا أساسيًا في عملها. وهذه هي الطريقة الوحيدة المؤكّدة لضمان حصول رؤساء الولايات المتحدة في المستقبل على أفضل دعم استخباراتي ممكن، والبقاء في طليعة خصومهم، وحماية القدرات والعمليات الحساسة للولايات المتحدة. وسوف يتطلّب تنفيذ هذه التغييرات تحوُّلًا ثقافيًا داخل مجتمع الاستخبارات. واليوم، يبني محللو الاستخبارات في المقام الأول المنتجات من الاستخبارات الخام والبيانات، مع بعض الدعم من نماذج الذكاء الاصطناعي القائمة لتحليل الصوت والصور. وفي المستقبل، ينبغي لمسؤولي الاستخبارات أن يستكشفوا إدراج نهجٍ هجين، بما يتماشى مع القوانين القائمة، باستخدام نماذج الذكاء الاصطناعي المدربة على البيانات التجارية غير السرّية المتاحة والمكررة بالمعلومات السرية. إنَّ هذا المزيج من التكنولوجيا وجمع المعلومات الاستخباراتية التقليدية قد يؤدي إلى إنشاء كيان ذكاء اصطناعي يوفر التوجيه للصور والإشارات والمصدر المفتوح وأنظمة القياس على أساس رؤية متكاملة للنشاط الطبيعي والشاذ، وتحليل الصور الآلي، والترجمة الصوتية الآلية.
لكي يتسنّى تسريع عملية الانتقال، يتعيّن على قادة الاستخبارات أن يدافعوا عن فوائد تكامل الذكاء الاصطناعي، مع التأكيد على القدرات المحسنة والكفاءة التي يوفرها. وقد تم إنشاء كادر من كبار مسؤولي الذكاء الاصطناعي المعينين حديثًا في الاستخبارات والدفاع في الولايات المتحدة للعمل كقادة داخل وكالاتهم لتعزيز ابتكار الذكاء الاصطناعي وإزالة الحواجز أمام تنفيذ التكنولوجيا. ومن الممكن أن تعمل المشاريع التجريبية والانتصارات المبكرة على بناء الزخم والثقة في قدرات الذكاء الاصطناعي، وتشجيع التبنّي على نطاق أوسع. ويمكن لهؤلاء الضباط الاستفادة من خبرة المختبرات الوطنية والشركاء الآخرين لاختبار وصقل نماذج الذكاء الاصطناعي، وضمان فعاليتها وأمنها. ولإضفاء الطابع المؤسّسي على التغيير، ينبغي للقادة أن يخلقوا حوافز تنظيمية أخرى، بما في ذلك الترقيات وفرص التدريب، لمكافأة الأساليب الإبداعية والموظفين والوحدات التي تثبت الاستخدام الفعّال للذكاء الاصطناعي.
أنشأ البيت الأبيض السياسة اللازمة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في وكالات الأمن القومي. وقد حدد الأمر التنفيذي الذي أصدره الرئيس جو بايدن في العام 2023 بشأن الذكاء الاصطناعي الآمن والموثوق به الإرشادات اللازمة لاستخدام التكنولوجيا بشكل أخلاقي وآمن، كما إنَّ مذكرة الأمن القومي رقم 25، التي صدرت في تشرين الأول (أكتوبر) 2024، هي الاستراتيجية الأساسية للبلاد لتسخير قوة الذكاء الاصطناعي وإدارة مخاطره لتعزيز الأمن القومي. والآن، سيحتاج الكونغرس إلى القيام بدوره. هناك حاجة إلى تخصيص المخصصات للوزارات والوكالات لإنشاء البنية الأساسية اللازمة للابتكار والتجريب، وإجراء وتوسيع نطاق الأنشطة والتقييمات التجريبية، والاستمرار في الاستثمار في قدرات التقييم لضمان قيام الولايات المتحدة ببناء تقنيات الذكاء الاصطناعي الموثوقة وعالية الأداء.
إن مجتمعات الاستخبارات والجيش ملتزمة بإبقاء البشر في قلب عملية صنع القرار بمساعدة الذكاء الاصطناعي، وقد أنشأت الأطر والأدوات اللازمة للقيام بذلك. وسوف تحتاج الوكالات إلى إرشادات حول كيفية استخدام المحللين لنماذج الذكاء الاصطناعي للتأكد من أنَّ منتجات الاستخبارات تُلبّي معايير مجتمع الاستخبارات للموثوقية. وسوف تحتاج الحكومة أيضًا إلى الحفاظ على إرشادات واضحة للتعامل مع بيانات المواطنين الأميركيين عندما يتعلق الأمر بتدريب واستخدام نماذج اللغة الكبيرة. وسوف يكون من المهم تحقيق التوازن بين استخدام التقنيات الناشئة وحماية الخصوصية والحريات المدنية للمواطنين. وهذا يعني تعزيز آليات الرقابة، وتحديث الأطر ذات الصلة لتعكس قدرات ومخاطر الذكاء الاصطناعي، وتعزيز ثقافة تطوير الذكاء الاصطناعي داخل جهاز الأمن القومي الذي يستغل إمكانات التكنولوجيا مع حماية الحقوق والحريات التي تشكل الأساس للمجتمع الأميركي.
وعلى عكس الخمسينيات من القرن العشرين، عندما تسابقت الاستخبارات الأميركية إلى طليعة الصور الجوية وصور الأقمار الاصطناعية من خلال تطوير العديد من التقنيات الرئيسة نفسها، فإنَّ الفوز في سباق الذكاء الاصطناعي سوف يتطلّب من هذا المجتمع إعادة تصوُّر كيفية شراكته مع الصناعة الخاصة. إن القطاع الخاص، الذي يُعدُّ الوسيلة الأساسية التي يمكن من خلالها للحكومة تحقيق تقدم الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع، يستثمر مليارات الدولارات في الأبحاث المتعلقة بالذكاء الاصطناعي ومراكز البيانات وقوة الحوسبة. ونظرًا للتقدم الذي أحرزته هذه الشركات، ينبغي لوكالات الاستخبارات أن تعطي الأولوية للاستفادة من نماذج الذكاء الاصطناعي المتاحة تجاريًا وصقلها باستخدام بيانات سرية. ويمكّن هذا النهج مجتمع الاستخبارات من توسيع قدراته بسرعة بدون الحاجة إلى البدء من الصفر، مما يسمح له بالبقاء قادرًا على المنافسة مع الخصوم. ويشكل التعاون الأخير بين وكالة “ناسا” وشركة “آي بي أم” لإنشاء أكبر نموذج أساس جغرافي مكاني في العالم ــ والإصدار اللاحق للنموذج لمجتمع الذكاء الاصطناعي كمشروع مفتوح المصدر ــ دليلًا نموذجيًا على كيفية عمل هذا النوع من الشراكة بين القطاعين العام والخاص في الممارسة العملية.
مع دمج مجتمع الأمن القومي للذكاء الاصطناعي في عمله، يجب عليه ضمان أمن ومرونة نماذجه. إنَّ وضع معايير لنشر الذكاء الاصطناعي التوليدي بشكل آمن أمر بالغ الأهمية للحفاظ على سلامة عمليات الاستخبارات التي يقودها الذكاء الاصطناعي. وهذا هو التركيز الأساسي لمركز أمن الذكاء الاصطناعي الجديد التابع لوكالة الأمن القومي وتعاونه مع معهد سلامة الذكاء الاصطناعي التابع لوزارة التجارة.
مع مواجهة الولايات المتحدة منافسة متزايدة لتشكيل مستقبل النظام العالمي، فمن الضروري أن تستفيد وكالات الاستخبارات والجيش من ابتكار البلاد وقيادتها في مجال الذكاء الاصطناعي، مع التركيز بشكل خاص على نماذج اللغة الكبيرة، لتوفير معلومات أسرع وأكثر صلة لصناع السياسات. عندها فقط سوف يكتسبون السرعة والاتساع وعمق البصيرة اللازمة للتنقل في عالم أكثر تعقيدًا وتنافسية وثراءً بالمحتوى.
- آن نيوبرغر هي نائبة مساعد الرئيس ونائبة مستشار الأمن القومي للتكنولوجيا السيبرانية والناشئة في مجلس الأمن القومي الأميركي. من العام 2009 إلى العام 2021، شغلت مناصب تشغيلية عليا في مجال الاستخبارات والأمن السيبراني في وكالة الأمن القومي، بما في ذلك منصب أول مسؤول عن المخاطر.
- يُنشَر هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع نشره بالإنكليزية في “فورِن أفّيرز” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.