“مؤَلِّف موسيقي وترضى برئاسة حكومة”؟

هنري زغيب*
في السائد أَنَّ المبدعين، في أَيِّ حقل معرفي، خالدون على الزمان بنتاجهم الثقافي، وبه يعتبرون أَنهم أَبقى شُهرةً وذاكرةً من أَهل السياسة العابرين مع مرور فترتهم في الحُكْم وخروجهم منه، أَيًّا تَكُن مسؤُوليتُهم في الحُكْم.
في مسيرة إِيغناتسي يان باديريفسْكي (إِينياس بالفرنسية واغناطيوس بالعربية) ما حوَّله، لفترةٍ، من مؤَلِّف موسيقي مكرَّس وعازف بيانو شهير في زمنه، إِلى رئيس حكومة بلاده بولونيا والمسهم الناشط في النضال لنيل استقلالها.
هنا خيوط عريضة من مسيرته موسيقيًّا وسياسيًّا.

“الهبوط” إِلى رئيس حكومة
كان باديريفْسكي (1860 – 1941) فنانًا وسياسيًّا معًا، ومناضلًا أَول في جهود الحصول على استقلال بولونيا. سنة 1919 كان رئيس حكومة بلاده، كما كان وزير خارجيتها، وبهذه الصفة مثَّل بلاده موقِّعًا على معاهدة فرساي (28/6/1919 وبدأَ تنفيذها في 10/1/1920)، وهي انعقدت في قصر فرساي (فرنسا) ونجمَت عنها نهايةُ الحرب العالمية الأُولى.
خلال اجتماعات لجان المفاوضات والمناقشات، كان “النمر” جورج كليمانصو (رئيس وزراء فرنسا بين 1917 و1920، وكان من محبّي الفنون) يصافح رؤَساء الحكومات المشاركين في اللقاء، حتى إِذا وصل إِلى باديريفسْكي سأَله: “هل من قُربى بينكَ وبين باديريفسْكي المؤَلِّف الموسيقي والعازف الشهير؟” وإِذ أَجاب هذا الأَخير: “بلْ أَنا هو”، عبَس كليمانصو وَرَشَقَهُ بقوله مستغربًا: “مؤَلِّفٌ موسيقيٌّ مبدع، وترضى بأَن تكون رئيس حكومة؟ ما هذا الهُبوط”!

الخالد المعاصر
يمكن أَن نفهم ردَّة فعل كليمانصو، مع أَنَّ باديريفسْكي كان عازف بيانو شهيرًا ومؤَلِّفًا موسيقيًّا ممتازًا وخطيبًا مكرَّسًا، بل أَحد أَشهر وأَبرز وأَبرع الموسيقيين انتشارًا في الولايات المتحدة وأُوروبا في نهاية القرن التاسع ومطلع القرن العشرين. وهو أَمضى ردحًا من حياته بين سويسرا وأَميركا. وبعد وفاته لقَّبهُ معاصروه “الخالد المعاصر”، لأَنه كان شهيرًا على المستوى العالَمي، وداعية سلام، وراعيًا أَهلَ الفنون، وزوجًا مثاليًّا، ووزيرًا أَسهم في تحرير بلاده.
ملامح من سيرته الموسيقية
وُلد في بلدة كوريلوفكا من مقاطعة بودوليا (اليوم على تخوم أُوكرانيا). وكان في الثانية عشْرة (1872) حين انتقل إِلى وارسو لدراسة العزف على البيانو في كونسرفاتوارها. ثم انتقل إِلى برلين، وبعدها إِلى فيينا ليتعمَّق أَكثر في تقْنية العزف ودراسة التأْليف الموسيقي مع المؤَلِّف الأَلماني العالَمي ريتشارد شْتراوس. وبدأَ بالتأْليف، ومن أَوائل أَعماله مقطوعة استوحاها من موزار.
شهرتُه كعازف بيانو حملَتْه إِلى جولات دولية كثيرة تقاضى عليها أَجْرًا عاليًا كان يعادل عصرئذ أَجْر راخمانينوف العظيم. وبعد استقراره في الولايات المتحدة، أَطلق سنة 1896 صندوقًا خاصًّا خصص له 10 آلاف دولار (مبلغ كببر جدًّا عصرئذٍ) لتشجيع التأْليف الموسيقي الأَميركي.

ملامح من سيرته السياسية
بعد أَدائه عددًا من مؤَلَّفاته في صالة “إِرار” (باريس)، انتقل سنة 1891 إِلى الولايات المتحدة قاطفًا شهرةً واسعة انتقل بعدها إِلى معظم الدول الأُوروبية وأَميركا الجنوبية وأُستراليا، فاندلعت شهرته عالَميًّا على نطاق واسع.
هذه الشهرة، وما واكبها من علاقات عامة وشخصية مع أَعلام العصر السياسيين، ساعدَتْهُ على النضال لاستقلال بلاده بولونيا. من هنا سفَره، مع الزعيم البولوني رومان دْموفْسْكي، إِلى فرساي وتوقيعه باسم بولونيا على معاهدة السلام. بعدها بأَشهر استقال من رئاسة الحكومة (في 9/12/1919) وغادر في كانون الثاني/يناير 1920 إِلى سويسرا.
حكومة المنفى
سنة 1939 تعرَّضَت بولونيا لهجوم من أَلمانيا وروسيا، وتقسَّمت بولونيا بين الاحتلالين فكانت بداية الحرب العالمية الثانية. وقام باديريفسكي، على الرغم من اعتلال صحته، فاشترك في حكومة المنفى (في باريس ثم في لندن) وبقي عضوًا فيها حتى وفاته.
في كانون الأَول/ديسمبر 1940 غادر سويسرا إِلى الولايات المتحدة متحمِّلًا مرَضه، ومواصلاً جهوده الدبلوماسية خُطَبًا ولقاءات سياسية. أَذاع من الراديو الأَميركي عددًا من الأَحاديث، وأَعطى منبريًّا عددًا من المحاضرات لشدِّ العصَب البولوني كي تشتدَّ الحماسة الوطنية في قلوب مواطنيه البولونيين إِلى مقاومة خارجية ترفد تلك الداخلية في البلاد.
لكن ذاك الجهد ضاعف من وهْنه فأَصابه في نيويورك التهابٌ رئويٌّ حادٌّ أَودى به في 29/6/1941، بعد أُسبوع فقط من خطابه الأَخير في جمع كثيف من الحضور جاء فيه: “أَنشُدُ بينكم فرصةَ التعبير عن أَملي وقناعتي وإِيماني الوثيق بأَنَّ بلادكم النبيلة وبولونيَايَ الحبيبة ستكونان، كما كانتا بكل مجد، مشعَلَي الحقيقة والعدالة والسلام”.
حضورُهُ بعد غيابه
حضرَ جنازته نحو 40 أَلف مشيِّع داخل وخارج كاتدرائية سانت باتريك الكبرى في مانهاتن (نيويورك). وبقي جثمانه في مقبرة آرلنغْتون (ولاية فرجينيا) نحو 51 سنة إِلى أن تم نقلها في 5 تموز/يوليو 1992 إِلى مدافن كاتدرائية القديس يوحنا (وارسو) في احتفال وطني رسمي وشعبي بحضور الرئيسَين: الأَميركي جورج بوش والبولوني ليش فاليسا.
سوى أَن قلبه بقيَ في الولايات المتحدة، محفوظًا داخل منحوتة برونزية لدى مزار “سيدة تشيكوسلوفاكيا” الوطني في دُوْليسْتاون (ولاية بنسيلفانيا)، لأَنَّ في تلك المدينة الأَميركية جاليةً بولونية واسعة.
ولإِحياء ذكراه الدائمة، تأَسس سنة 2011 في “باسو روبلز” (كاليفورنيا) “مهرجان إِيغناسي يان باديريفسكي الدولي” الذي يستقطب سنويًا عشرات الفرق الموسيقية من معظم أَنحاء العالم.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.