تهجيرُ قطاع غزَّة ليسَ قَدَرًا

السفير فيكتور الزمتر*

عرفَ التاريخُ السياسيُّ جُملةَ تطوُّراتٍ على مرِّ العصور، إلى أنْ وصَلَتنا حُلَّتُه الحاضرةُ قاصرةً عن بلوغ المعايير التي يستوجبُها التناغُمُ ضمن تنوُّع الأعراق البشرية ومشاربها!
فبالرُّغم من المُحاولات الحثيثة لإرساء العلاقات الدولية على قدرٍ من الأنسنة والعدالة والتعاون والإحترام المُتبادَل بين الشعوب والأُمم، درءًا للإحتراب، بقيت العلاقاتُ الدوليةُ مَشوبةً ببصماتِ غريزةِ تسلُّط القوي على الضعيف وهيمنة الغني على الفقير.
وفي سياق تطوُّر النظام الدولي الحديث، تُعتبرُ “مُعاهدةُ وستفاليا”، لعام ١٦٤٨، المدماكَ الأساسَ لإرساء قواعد السلام والتوازن بين دول أوروبا، في أعقاب إنهاء حرب الثلاثين عامًا. إذ مُذ ذاك، اعتُمِدَ مبدأُ الحوار وظهرَ التمثيلُ الديبلوماسي لفضّ النزاعات سلميًا، مع الأخذ باحترام سيادة وحدود الدويلات الأوروبية، التي كانت يومَها في طور التشكُّل، مع الإلتزام بعدم التدخُّل بشؤون الدُوَل الداخلية …
وثمَّةَ إجماعٌ على اعتبار تلك القواعد الآنفة الذكر نقلةً نوعيةً في انتظام العلاقات الدولية. ومع ذلك، سُجِّلَت إخفاقاتٌ عديدةٌ في لجم غريزة الإستقواء وجموح السيطرة لدى القوى الفاعلة، ما استدعى عقد العديد من المؤتمرات والمعاهدات لإنهاء الحروب المُتنقِّلَة، أبرزُها “معاهدة أوتريخت” في العام ١٧١٣ بُعَيدَ أزمة العرش الإسباني، و”مؤتمر فيينّا” في العام ١٨١٥ بسبب ما أذكته الثورة الفرنسية في العام ١٧٨٩ من المشاعر القومية، ومؤتمر الصلح في فيرساي في العام ١٩١٩، ومؤتمر بوتسدام في العام ١٩٤٥ …
إلى ذلك، كان لاختراع المحرّك البُخاري في العام ١٧٦٠ الدور البارز في إطلاق الثورة الصناعية، وما نتجَ عنها من تسعيرٍ للمنافسة بين القوى الأوروبية للإستحواذ على أكبر قدرٍ ممكنٍ من المستعمرات، طمعًا بمواردها الأولية وبأسواقها، لزوم تصريف المنتوجات الصناعية.
ولعلَّ أبلغَ دليلٍ على تشوُّه حُلَّة العلاقات الدولية الراهنة هو خروجُ الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية عن القواعد والمبادئ التي جسَّدَها ميثاقُ الأُمم المتحدة، الذي تصدَّرهُ الإلتزامُ المُعبِّرُ الواعدُ: “نحن شعوبُ الأُمم المتحدة، وقد آلينا على أنفسنا أن نُنْقذَ الأجيالَ المُقبلةَ من ويلات الحرب … اعتزمنا أن نأخذَ أنفُسَنا بالتسامح، وأنْ نعيشَ معًا في سلامٍ وحُسن جِوار…”.
فأينَ عالمُ الألفية الثالثة من هذا الإلتزام السامي، والحروبُ تُدمِّرُ العُمران وتحصُدُ الأرواحَ، والأمعاءُ الخاويةُ تتضوَّرُ جوعًا، والطمعُ يمدُّ مخالبَه إلى حدودٍ ودُوَلٍ وكياناتٍ قائمةٍ …؟
ولئن وُلدت الحربُ الباردةُ بين المعسكرين الغربي والشرقي مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، فمن الإنصاف الإعتراف بأنَّ العالمَ قد نعمَ بأكثر من عقدين بالسلام والإستقرار لغاية اغتيال الرئيس جون كينيدي في العام ١٩٦٣. هذا، إذا استثنينا أزمةَ برلين في العام ١٩٤٩، والحربَ الكوريةَ في العام ١٩٥٠ وأزمة الصواريخ الكوبية في العام ١٩٦٢.
ومع دخول الرئيس ليندون جونسون (١٩٦٣- ١٩٦٩) إلى البيت الابيض، زاد ابتعادُ الولايات المُتحدة عن شعارات دفاعها عن الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان .. فحربُ فيتنام هي الشهيدةُ الشاهدةُ. بعده، جاء الرئيس ريتشارد نيكسون (١٩٦٩- ١٩٧٤)، الذي يُشهدُ له إنهاءَه حرب فيتنام وانفتاحَه على الصين القاريَّة، قبل أنْ تقبَعَه الدولةُ الأميركيةُ العميقةُ.
إلّا إنَّ انحيازَ الإدارات الأميركية المُتعاقبة إلى جانب إسرائيل، ظالمةً كانت أو مظلومةً، بقي علامةً فارقةً في العلاقات الدولية، وانحيازًا فاقعًا يندى له جبينُ الخجل وعِزَّةُ النفس. ومع التسليم بعوائد الدعم الأميركي اللّا محدود للكيان الإسرائيلي إيجابًا على المصالح الإستراتيجية والسياسية والإقتصادية … الأميركية، يؤشِّرُ هذا الدعمُ إلى مدى تغلغُل النفوذ الصهيوني في تلابيب دوائر صُنع القرار في واشنطن، لدرجةٍ أصبح هذا النفوذُ وَرَمًا خبيثًا، يستحيلُ استئصالُه بدون اللُّجوء إلى الكَيِّ الجائر!
ومع ذلك، لم يبلغْ الشغَفُ الاميركيُّ بالتوسُّع وبسياسة الفرض، على مدى العقود، ما بلغَه مع الإدارة الحالية من الشأوِّ والإستهتار بالعقول والشرائع والقِيَمِ والكرامات الوطنية وتضحيات الشعوب التائقة إلى الإنعتاق. فالعالم مذهولٌ، لا يُصدِّقُ ما يرى ويسمعُ من مُطالباتٍ إقليميةٍ تجاوزت حدَّ المعقول والهذيان!
ولئن وجدَ البعض حدًّا أدنى من مُبرِّرات المُطالبة بضمِّ دولةٍ متاخمةٍ، أو جزيرةٍ متشاطئةٍ لأسبابٍ استراتيجيةٍ واقتصاديةٍ وعسكريةٍ، يستعصي على من يُتقنُ مبدأَ تدوير الزوايا إيجادَ المُبرِّرات لمُدَّعي الإستحواذ على أرضٍ فلسطينيةٍ خارج قارَّته، وبدون وجه حقٍّ ولا صكِّ مُلكيةٍ ولا وِصايةٍ أو وِلايةٍ على شعبها المُجاهد، فكيف إذا كانت نكبةُ هذا الشعب من صُنع من يدَّعي أن السُهادَ استوطَنَ جُفونَه، من شدَّة تعاطُفه تجاهَ جُلجُلته؟!
لم يمضِ شهرٌ بعد على عودة الرئيس دونالد ترامب المُظفَّرَة إلى البيت الأبيض، والعالمُ، حليفًا كان أو خصمًا، مُرتعدُ الفرائص من عنترة، فارس الأبجر! فهل هو، بالفعل، الآمرُ الناهي، يقولُ، فكلامُه مُنزلٌ، ويُتمتِمُ، فَيَنشغلُ القومُ باستقراء تمتماته؟ بل، هل هو القَدَرُ المحتومُ، الذي لا مناصَ من الخضوع لمشيئته؟
قناعتي العميقةُ أنَّ المُشكلةَ لا تكمنُ في ادّعاء الرئيس ترامب رسوليته لإصلاح العالم، بل في المقابل إطاعة الغير لفرماناته الهمايونية. إذ كيف للقارَّة الأوروبية ألّا تُمسكَ بقدرها، وألّا تتَّعِظ من عِبَرِ الحربين العالميتين، لتحصين أمنها الجماعي، بدلَ أن تُبقي مصيرها رهنَ إرادة واشنطن؟ وكيف تنامُ نواطيرُ بلاد العرب عن ثعالبها، وقد بشمت من عناقيد كرومها، وهي مُستكِينَةٌ لإسلاسِ قيادِها لإرادة من ناصرَ أعداءها واستنفذَ خزينَ ثرواتها؟
لقد دعت مصرُ إلى قمَّةٍ عربيةٍ طارئةٍ، في الرابع من آذار (مارس) المقبل، للبحث بمُستجدّات قطاع غزَّة، على خلفية نوايا تهجير أهلها، تحت ستار تحويلها إلى “ريفييرا الشرق الأوسط”! وستسبقُ قمّةَ القاهرة قمَّةٌ مُصغَّرَةٌ ستستضيفُها الرياضُ، دعمًا لقمَّة القاهرة. وعليه، الوقتُ ليس لاجترار قرارات القِمم العربية الأربع والأربعين السابقة، التي فشلت، ليس فقط في استرداد شبرٍ واحدٍ من أرض فلسطين المُغتصَبَة، بل كانت شاهدةً على قضم فلسطين، قضمةً قضمةً.
فالآن، وُضعَت تصفيةُ قضية فلسطين، بوقاحةٍ وبدون مُواربةٍ، على نارٍ حاميةٍ، من خلال قرار الرئيس الأميركي الإستحواذ على قطاع غزَّة، ما بعثَ الحياةَ في حلم تحقيق صفاء الكيان الصهيوني!
فهل لهذا الخطر الداهم أن يوقظَ العربَ من الغفلة القاتلة، قبل فوات الأوان؟
للمرء عُذْرُه إنْ تخيَّلَ بأنَّ خبرَ القمَّتين، الطارئة والمُصَغَّرة، قد تناهى إلى مسامع رُفاة الشاعر المصري، علي محمود طه، فإذا بها تنتفضُ غَضَبًا، صارخةً بوجه المُتنادين إلى المؤَتمَرَيْن:
“أخي جاوزَ الظالمونَ المدى فحقَّ الجهادُ وحقَّ الفدى
أنترُكُهم يغصبونَ العُروبةَ مجدَ الأُبُوَّة والسؤدُدا …”.
فبحقِّ ضحايا الحقد والظُلم وبراءة الأطفال اليتامى، هل تُنصتون؟

  • الدكتور فيكتور الزمتر هو سفير لبناني متقاعد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى