نموذجُ التنشيط في محترف عمشيت
هنري زغيب*
أَقول “التنشيط”، وهو على أَنواع: منه الجسديُّ، ومنه النفسيُّ، ومنه الفكريُّ، ومنه الفنيُّ. وأَتوقف اليوم عند هذا الأَخير: التنشيط الفني. في هذا السياق تنشَط المحترفات على نوعين: الأَولُ دائمٌ ذو تمارينَ متواصلةٍ ونتائجَ أَكاديميةٍ، والآخرُ موسميٌّ ويسمى غالبًا “سمبوزيوم” (“سمبوزيوم الرسم والنحت”، سمبوزيوم طبي حول موضوع طبي حديث أَو مستجد”، …).
في فضاء المسرح، وصلَني قبل أَيام كتابٌ توثيقيٌّ رصينٌ سجَّل نشاط “محترف عمشيت للمسرح” منذ تأْسيسه سنة 1982، يوم انبرى له الدكتور إِيلي أَنطوان لحود، إِثر عودته من دراسته الأَكاديمية المسرحية العليا في السوربون. فترتَئذٍ لم يكتفِ بتدريس المسرح في الجامعة اللبنانية، بل أَكمل ما بدأَه سنة 1968 قبل سفره بإِنشاء “فرقة عمشيت للمسرح”، مطوِّرًا الفكرة بـ”محترف عمشيت للمسرح” هيَّأَ له مكانًا رئيسُ “نادي عمشيت” عهدذاك ناظم الخوري (النائب والوزير في ما بعد). وانطلق العمل الرسالي في كانون الثاني/يناير 1982 بخمسةٍ وعشرين عنصرًا من الشباب والصبايا، معظمُهم لم يعرف قبلًا أَيَّ إِلمام بالمسرح، فكان “المحترف” فضاءً لهم يحقِّق حُلْمهم وهواياتِهم، وبلغ منهم مَن باتوا اليوم ممثِّلين مُكرَّسين شاركوا في أَعمال كُبرى من ذاكرة المسرح اللبناني.
قبل العمل نصًّا وتنفيذًا وتمثيلًا، راح إِيلي لحود يركِّز على إِعداد الممثل، وهو أَصلًا المكان والزمان والنص والإِخراج، كما حدَّده قسطنطين سْتانيسْلافسْكي في كتابه الشهير “إِعداد الممثِّل” (1936). من هذا المبدإِ انطلق إِيلي لحود في الاشتغال على الممثل جسدًا وتنفُّسًا وتصويتًا جهيرًا وإِيماءً صامتًا وحركاتٍ وتعابيرَ محيَّا وعينَين واستخدامَ الرِجْلَين والقَدَمين واليَدَين والكَفَّين، حتى يغدو جسَد الممثل هو المكان. هكذا تتركَّزُ التمارين الأُولى على لغة الجسد من دون أَيِّ قطعةِ أَثاث، ولا أَيِّ ما يُستخدَم للديكور. بعد تلك التمارين التجريبية القاسية والصعبة على إِتقان التعبير بلُغة الجسَد من المتخيَّل، يُصبِح التمثيلُ أَسهلَ لأَن الممثِّل يكون طوَّع جسدَه لاقتبال أَيِّ حوارٍ في أَيِّ بقعةِ ديكور، فيكون جاهزًا في ما بعد لأَداء اللحظة المسرحية الفاصلة بين الواقع والمتخيَّل.
إِنه الانغماس الكامل في فضاء المسرح الذي تنتهي حدودُهُ عند حدود خشبة المسرح، فلا وجودَ للجمهور الـمُشاهد في مشاعر الممثل، إِلَّا في خياله مما هيَّأَه في جُوَّانيَّته من مشاعرَ تخدُمُ فكرةَ النص وحوارَه وموضوعَه. بهذه المبادئ الصارمة عالج إِيلي لحود، وما زال يعالجُ الممثلَ منذ أَكثر من أَربعين سنةً: إِعدادًا وتربيةً وتدريبًا متواصلًا وعُرُوضًا متتالية، جميعها تبدأُ من جغرافيا لغة الجسد وتكمل في جغرافيا النص المسرحي وتنفيذه.
ذاك كان دأْبَ إيلي لحود لدى تأْسيسه محترف المسرح، واشتغالِه دؤُوبًا طيلة 42 سنة بلا توقُّف، مع كلِّ ما رافقَها من التزامٍ وقواعدَ وأُسسٍ وأَنظمةٍ في خدمة البُلوغ الأَعلى لهذا الفن الراقي الذي هو المسرح. وهو ما تجلَّى في هذا الكتاب/الوثيقة تأَنَّى بوضعه الدكتور جورج مطر وأَصدره في 300 صفحة نصوصًا وصُوَرًا لدى “منشورات الرافدَين”-بيروت، مع غلافٍ مُعَبِّرٍ عن فضاء المسرح وضَعَهُ بول سليمان، وهو خريج الدفعة الأُولى من “محترف عمشيت للمسرح” سنة 1985.
تحية للدكتور إِيلي لحود على تَرَسُّله المضْني الدؤُوب المتواصل المؤْمن بعالم المسرح ينبوعَ ثقافةٍ وحضارةٍ في الوطن، وشمسًا تُشْرق على شعبٍ يعرف أَنَّ الإِبداعَ هو وحدَه الباقي على الزمان في مسيرة الوطن، وهو الأَروعُ والأَسطعُ والأَبدعُ والأَرفعُ من أَيِّ تفاصيلَ يوميةٍ عابرةٍ زائلةٍ من مسيرة الشُؤُون السياسية في مسيرة الدولة.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib