حَظرُ إسرائيل للأونروا يُوَلّدُ فراغًا مُدمّرًا للفلسطينيين

كابي طبراني*

في الثامن والعشرين من تشرين الأول (أكتوبر) الفائت، أقرَّ البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) الإسرائيلي قراءةً ثانية لمشروعَي قانونَين يُحظّران فعليًا على وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) القيامَ “بأيِّ نشاطٍ” في إسرائيل وفلسطين المحتلة والأراضي التي ينطبق عليها القانون الإسرائيلي.

وتبعت إسرائيل قرارها بمهاجمة وإلحاق الضرر بمكتب الأونروا في مخيَّم نور شمس للاجئين في الضفة الغربية المحتلة. وكان هذا الإجراء من قبل الحكومة الإسرائيلية لإظهار جدّيتها بشأن هذه المسألة.

دخلَ الحظرُ حَيِّزَ التنفيذ قبل أيام، وبالتحديد في 30 كانون الثاني (يناير) الفائت، في أسوَإِ وقتٍ مُمكن بالنسبة إلى سكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليوني نسمة، حيث قَدَّمَ اتفاقُ وقفِ إطلاق النار، الذي أوقفَ (مؤقّتًا) حربًا مُدمِّرة استمرّت 15 شهرًا، للأونروا والوكالات الأخرى الفرصة لتقديم المساعدات التي يحتاجون إليها بشدة.

من المؤكد أنَّ تأثيرَ إنهاء تقديم التعليم والرعاية الصحية والخدمات الأخرى في القدس الشرقية والضفة الغربية المحتلة، فضلًا عن تعقيد عملية المساعدات في غزة بشكلٍ كبير، سيكون عميقًا وطويل الأمد. هذا هو نطاقُ وحجمُ دورِ المنظمة في تقديم الدعم لملايين الفلسطينيين الذين يعيشون كلاجئين داخل الأراضي المحتلة، وكذلك في الأردن ولبنان وسوريا.

إنَّ قصّة نشأة الوكالة ضرورية لفَهم مدى مركزيتها، وربما انتشارها، بين أربعةِ أجيالٍ من الفلسطينيين. تأُسّست الوكالة في العام 1949 بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 302 (IV). وبدأت عملياتها في الأول من أيار (مايو) 1950. وكانت مهمّتها تنفيذ برامج الإغاثة والتنمية، بما في ذلك توفير الغذاء والرعاية الصحية والتعليم، لعشرات الآلاف من الفلسطينيين النازحين بسبب إنشاء دولة إسرائيل. ومنذ ذلك الحين، نمت المنظمة، وتوظف فيها عشرات الآلاف من الفلسطينيين. وهي في جوهرها تُنفّذُ العملَ الذي من المُفتَرَضِ أن تُوَفّره الدولة الفلسطينية لشعبها.

لقد انتقدَ كثيرون الأمم المتحدة بحقٍّ لفشلها في استكمال تفويض الأونروا الإنساني بآخرٍ سياسي من شأنه في نهاية المطاف أن يساعد الفلسطينيين على تحقيق حقهم في العودة وفقًا لقرار الأمم المتحدة رقم 194. ولكن بالنسبة إلى إسرائيل، ظلت هذه الوكالة تشكّلُ مشكلة.

وفقًا لتفكير تل أبيب، فإنَّ وجود الأونروا يُشكّلُ تذكيرًا مستمرًّا بوجودِ مجموعةٍ متميّزة من الناس يُطلَقُ عليهم اسم اللاجئين الفلسطينيين. ورُغمَ أنَّ الأونروا ليست منظّمة سياسية، فإنَّ أزمة اللاجئين الفلسطينيين وكل قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة التي تؤكد على الحقوق “غير القابلة للتصرُّف” لهؤلاء اللاجئين هي سياسية للغاية. واستغلَّ بنيامين نتنياهو التعاطُف الأوّلي، وإن كان قصير الأمد، مع إسرائيل في جميع أنحاء العالم على أثر ما حدث في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، والحملة الضخمة من المعلومات المُضَلّلة الصادرة عن إسرائيل وحلفائها، كفرصةٍ لشيطنة الأونروا بشكلٍ أكبر. ومع ذلك، كانت حملته بدأت قبل ذلك بكثير.

كان جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب، لاعبًا رئيسًا مُشاركًا لنتنياهو في الحرب على الأونروا. فقد جعل كوشنر، الذي استثمر الكثير من الوقت في مساعدة إسرائيل على هزيمة الفلسطينيين، من الأونروا نقطة رئيسة في خطته. وتعهّدَ ببذل “جهود صادقة لتعطيل” عمل المنظمة، كما كشفت رسالة بريد إلكتروني مُسَرَّبة.

ونتيجة للرفض والتضامن الدوليين، فشل كوشنر في النهاية. وحتى حجب الأموال من قبل الإدارة الأميركية لم يُجبِر المنظمة على الإغلاق، على الرُغم من أنه أثَّرَ سلبًا في حياة الملايين من الفلسطينيين.

منذ بداية الحرب الإسرائيلية الأخيرة والأكثر تدميرًا في غزة، تقول الأونروا إنها قدّمت الغذاء لنحو مليوني شخص، واستشارات الرعاية الصحية الأولية لنحو 1.6 مليون منهم، والمياه لأكثر من 600 ألف شخص. كما أدارت أكثر من 100 مأوى طارئ وقدّمت الدعم للصحة العقلية لنحو 800 ألف من السكان ــ كل هذا خلال صراعٍ أسفرَ عن مقتل أكثر من 47,100 شخص ونزوح أكثر من 90 في المئة من سكان غزة.

لقد خدم وجود الأونروا في تذكير بقية العالم بالقضية الفلسطينية. وكثيرًا ما يقول منتقدو إسرائيل إنَّ هذا هو السبب جُزئيًا وراء سعي الطبقة السياسية في الدولة العبرية منذ فترة طويلة إلى تقويض عمل الوكالة. والواقع أن الحظرَ جاء بعد محاولات سابقة غير ناجحة من جانب الحكومة الإسرائيلية لسحب التمويل عن المنظمة، بل وحتى إيقافها عن العمل.

بعد الهجوم المميت الذي شنته “حماس” على إسرائيل في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الفائت، زعمت إسرائيل أنَّ العديد من موظفي الأونروا شارك بشكلٍ مباشر في الهجوم. وقد وجد تحقيقٌ داخلي أجرته الأونروا أخيرًا أنَّ عددًا قليلًا من موظفيها الفلسطينيين الذين يبلغ عددهم آلافًا عدة كان متورّطًا، لكن مدى المشاركة لم يكن قريبًا من النطاق الذي ادّعته إسرائيل. يجب محاسبة الأشخاص الذين ارتكبوا جرائم، ولكن ليس الوكالة بأكملها.

مع ذلك، فإنَّ إغلاق الوكالة في إسرائيل والضفة الغربية وغزة من شأنه أن يجعل الوضع الرهيب أصلًا للشعب الفلسطيني أسوأ بشكل واضح. ونظرًا لحجم الدمار الذي لحق بغزة وعدم الاستقرار المتزايد في جميع أنحاء الضفة الغربية، فإنَّ الأونروا العاملة بكامل طاقتها مطلوبة الآن أكثر من أي وقت مضى. ومع إعاقة عملياتها بالتأكيد، فإنَّ الملايين معرّضون لخطر المزيد من الحرمان من السلطة والإفقار. وإلى حدٍّ ما، سوف يُحرّرُ هذا القرار إسرائيل من مسؤوليتها الأخلاقية عن تهجير الشعب الفلسطيني الذي أشرفت عليه قواتها ــوالمجتمع الدولي ــ من العام 1947 إلى العام 1949.

كانت الحرب المستمرّة على غزة والدفع نحو ضمِّ أجزاءٍ كبيرة من الضفة الغربية بمثابة فرصة ذهبية لنتنياهو وحكومته المتطرّفة لزيادة الضغوط على الأونروا. وقد تمكّنا من ذلك بفضل الدعم الأميركي غير المشروط، واستعداد الحكومات الغربية المختلفة للتصرُّف بتهوُّر بناءً على مزاعم إسرائيل الكاذبة بشأن المنظمة التابعة للأمم المتحدة.

وبالسماح لإسرائيل بنزع الشرعية عن المنظمة المسؤولة عن إنفاذ القانون الدولي، تصبح أزمة الأمم المتحدة أعمق كثيرًا.

إنَّ النداء العاطفي الذي وجّهته المقرِّرة الخاصة للأمم المتحدة، فرانشيسكا ألبانيزي، في 30 تشرين الأول (أكتوبر) يعكس الإحباط الذي يشعر به العديد من المسؤولين التابعين للأمم المتحدة إزاء عدم أهمية الأمم المتحدة على نحو متزايد.

في كلمتها، أشارت ألبانيز إلى أنه إذا استمرّت إخفاقات الأمم المتحدة، فإنَّ تأثيرها سيُصبح “غير ذي صلة على نحوٍ متزايد ببقية العالم”، وخصوصًا خلال هذه الأوقات المضطربة.

وهذا الشعور بعدم الصلة بالواقع يشعر به بالفعل ملايين الفلسطينيين، وخصوصًا في غزة، ولكن أيضًا في الضفة الغربية. ورغم أنَّ الفلسطينيين يواصلون الصمود ورفض ومقاومة العدوان الإسرائيلي، فإنهم سئموا من النظام الدولي الذي يبدو أنه لا يُقدّمُ لهم سوى الكلمات، ولكن القليل من الفعل.

إنَّ حظرَ إسرائيل للأونروا يجب أن يُمثّلَ فرصةً لأولئك المهتمّين بمكانة الأمم المتحدة، لتذكير إسرائيل بأنَّ أعضاء الأمم المتحدة الذين لا يحترمون القانون الدولي يستحقّون نزع الشرعية عنهم. وهذه المرة، يجب أن تكون الكلمات مصحوبة بالفعل. ولن يكفي أيُّ شيءٍ آخر.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على:  @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى