عبقرية دوغا في 10 لوحات (1 من 2)

هنري زغيب*
هل يمكن أَن تختصر رسامًا مبدعًا عشرُ لوحات؟ أَو شاعرًا مبدعًا عشرُ قصائد؟ أَو موسيقيًّا مبدعًا عشرٌ من تآليفه؟ أَغلب الظن: لا، والأَصعب أَن يختار هو عشرة أَعمال تختصر نتاجه.
غير أَن الباحث أَو الناقد أَو الدارس أَو مؤَرخ الفن، يمكنه – ولو بمقاربة غير دقيقة – أَن يقطف من تراثِ مبدعٍ خالدٍ عشْرةَ أَعمالٍ إِن لم تختصره بدقَّةٍ فهي تُضيء على محطات رئيسَةٍ من مسيرته.
هو هذا القصد من هذا المقال في جُزءَين عن الرسام الفرنسي المبدع إِدغار دوغا Degas (1834-1917).

الرائد
كان إِدغار دوغا أَحد مؤَسسي التيار الانطباعي في الرسم. سوى أَنه لم يكُن يحب تسمية “الانطباعي” ويفضل عليها كلمة “التيار الواقعي” أَو “التيار المستقِل”. وهو كان رائدًا في عصره لِما جاء به من جديدٍ في التقنية والأُسلوب. اشتهر برسم راقصات الباليه وناس الطبقة الفقيرة من المساكين في تلك الحقبة من باريس القرن التاسع عشر.
- أُسرة بيليلّي (1885- 1867)
هي من أُولى لوحاته وأَكبرها حجمًا (علوّ نحو مترين وعرض نحو مترين ونصف المتر). رسمَها في إِيطاليا حيث كان يدرس الرسم، وكان لا يزال في العشرين. وفيها عمَّتُه لورا بيليلّي وزوجُها البارون غينّارو بيليلّي، وابنتَاهما جوليا وجيوفانَّا. وتبدو لورا في هيئة حزينة مأْساوية حدادًا على والدها المتوفى قبل أَيام، وتُمسك بابنتها البكر جوليا (10 سنوات). خلفها على الجدار صورةُ والدها الحديث الوفاة، فيما إِلى يمين اللوحة تبدو الصغرى جيوفانَّا (7 سنوات) جالسة على كرسي رافعة إِليه قدمَها اليُسرى فلا تظهر.
- مشهد من الحرب في القرون الوسطى (1865)
خلال دراسته الرسم تأَثَّر دوغا بكبار الرسامين، أَبرزُهم الكلاسيكي إِنْغْر (1780-1867) ورسامو النهضة، كما تأَثَّر بكتابات المؤَرخين اليونان واللاتين. من هنا أَنه انطلق في مسيرته التشكيلية برسم مواضيع من التاريخ. وبين عددٍ من اللوحات التي تقدَّم بها دوغا للاشتراك بــ”معرض باريس 1865″ لم تختَر اللجنة التحكيمية سوى لوحة “مشهد من الحرب في القرون الوسطى” كانت هي الأُولى التي عُرضَت في ذاك “الصالون”. وهي لوحة ذات أَلغاز: ليس فيها مرجع أَو حدَث تاريخي أَو أَدبي أُخذ منه موضوع اللوحة. فإِلى يسارها نساء عاريات بعضُهُنَّ أَكثرُ إِصابة من الأُخريات بجراح نصال الجنود. وفي أَعلى اللوحة إِلى اليسار منظرُ مدينة تحترق. ولا مبرر لوضع النساء بهذا الشكل في لوحة عن الحرب. من هنا أَن هذا الغموض أَدى بالبعض إِلى تسمية اللوحة “مآسي مدينة أُورليان”. ربما لذلك لم تلفت اللوحة روَّاد معرض باريس عامئذٍ.
3. مشغل القطن في نيو أُورلينز (1873)
بعد تلك المرحلة أَعلاه من المواضيع التاريخية، انتقل دوغا إِلى مواضيع الحياة اليومية في عصره، ومنها هذه اللوحة التي رسمها إِبَّان زيارته عامَي (1872 و1873) مدينة نيو أُورلينز (ولاية لويزيانا الأَميركية) حيث كان شقيقه وبعض أَفراد من أُسرته يعملون في حلْج القطن والتجارة به، ما سبَّب استرقاقهم عمَّالًا لتلك الصناعة المزدهرة في الولايات الأَميركية الجنوبية. لكن ظاهرة الاسترقاق لم تظهر معالِمها في اللوحة، بل ظهر بعض أَنسبائه: رينه دوغا يقرأُ في الجريدة، وأَشيل دوغا إِلى جانب النافذة، ومعهما أَنسباء من أُسرة موسُّون. عرض دوغا هذه اللوحة في “معرض باريس 1876” للرسامين الانطباعيين مع لوحات من كلود مونيه وأُوغست رنوار وكميل بيسارُّو.

- درس الرقص (1874)
بنى دوغا معظم شهرته على رسمه لوحاتٍ عن راقصات الباليه. وهذه اللوحة رسمها لكواليس المسرح قبل ظهور الراقصات أَمام الجمهور. لذا بدت فيها راقصات يتثاءَبْن أَو يتدرَّبْن على بعض الخطوات أَو يسترحْن قبل الظهور على المسرح، فيما مدرِّبُهُنَّ جول بيرو يراقب إِحدى الراقصات. وتعمَّد دوغا رسم المرآة التي تعكس الجهة الأُخرى من القاعة مع نافذتها، وتبدو راقصات أُخريات مع أُمهاتهن. وإِلى جانب المرآة يظهر قسمٌ من إِعلان مسرحي عن أُوبرا روسِّيني “غيوم تِل” (1829)، شاءه دوغا تكريمًا مَن كلفه وضْعَ هذه اللوحة: بطل تلك الأُوبرا الباريتون جان باتيست فُور (1830-1914). وهذه اللوحة لاقت ترحيب النقاد في معرض باريس 1876.

- راقصات باليه (1890)
هذه أَيضًا لوحة أُخرى من سلسلة لوحات دوغا عن راقصات الباليه. وهي تُظهر اهتمامَ الجمهور – وخصوصًا مدى اهتمام الرسامين – بهذا الفن الرائج في القرن التاسع عشر. والراقصات في هذه اللوحة هنَّ من الطبقة الفقيرة، يدفعهن أَهلُهن إِلى امتهان الرقص لكسب المال. وكان أَفراد من الطبقة الميسورة يطلبون حضور التمارين تشجيعًا الراقصاتِ بحفنةٍ من النقود.
في الجزء الآخر من هذا المقال: خمس لوحات أُخرى من دوغا.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.