مصطفى فروخ: من البسطة التحتا إِلى العالمية
هنري زغيب*
أَن يرسمَ كاتبٌ بقلمه، فطبيعيٌّ أَن تكون الكلمةُ ريشته الأَساسية. أَما أَن يكتبَ الرسام بقلمه، فَهو ما يخرج عن البديهي، لأَن البارع في الرسم بالريشة ليس ضروريًّا أَن يبرع في الرسم بالكلمات.
هي حال الرسام اللبناني الرائد مصطفى فروخ.
بعض سيرة
ولد مصطفى فروخ في محلة البسطة التحتا من بيروت سنة 1901. مال إِلى الرسم منذ طفولته، لكن بيئته عاكستْه بقسوة لأَن الرسم لم يكن من المتاح في تلك الفترة من مطلع القرن العشرين. سوى أَنه أَصرَّ على ملاقاة قدَره، وعزم سنة 1924 على السفر إِلى روما للتعمُّق في فن الريشة، ولم يكن ذلك سهلًا. وفي كتابه “طريقي إِلى الفن” يصف فصلًا من تلك العقبات للحيلولة دون سفره: “دخلتُ البيت يومًا فوجدتُ بعض النسوة من الجيران – وأَنا ما كان لي علاقة بإِحداهنَّ يومًا – جلسْنَ إِلى والدتي. وما إِنْ دخلتُ وسلَّمتُ حتى بادرْنَني قائلاتٍ:” شوف يا ابني، إِنتَ بعدك صغير وما بتعرف شو فيه بالدني. شو بدَّك بالسفر لبلاد ما بتعرفها. أُمك مرا كبيرة، وبدل ما تصرف هالمُصريات بسفَر ما إِلو عازة، عمِّر بيت فيهم أَو شوف شي بنت حلال تزوَّجْها”. فأَجبتُهُنّ بإِيجاز: “هذا شيء يخصُّني وحدي، وأَنا ما كلَّفت أَحدًا بالتدخُّل في شؤُوني. فالمال مالي، وأَنا حرّ في التصرُّف به، وأَعرف متى أَتزوج ومتى أَبني بيتًا”.
وسافر… واتَّبَع هواه وهوايته، ودرَسَ وعاد وأَسَّس محترفًا، ودرَّس الرسم في عدد من المعاهد والجامعات، بينها الجامعة الأَميركية في بيروت، ودار المعلمات الرسمية، ومدرسة مار افرام في زحلة (لصديقه الشاعر سعيد عقل)، وحاضرَ عن الفن على منابر عليا، بينها منبر “الندوة اللبنانية”، وانتشرَت لوحاته في لبنان ودول عربية ومتاحف عالمية، ودخل اسمُه في “موسوعة الفن العالمي” (1950). وظل يعمل بلا كلل حتى وافاه المرض فتوفي في 16 شباط/فبراير 1957.
صدماته منذ البدايات
الخروجُ عن البديهيّ وجدَ فسحةً جميلة لديه، هو الذي أَرَّخ بريشته مناظرَ لبنانية ووجوهَ عصره في أَبْهى خطوطه والأَلوان، كما أَرَّخ لانطباعاته ومشاهداته في كُتُبٍ تركَها شاهدةً على حقبةٍ من لبنان النصف الأَول للقرن العشرين، منها “رحلة إِلى بلاد المجد المفقود”، “الفن والحياة”، “طريقي إِلى الفن”، “وجوه العصر بريشة فرُّوخ”.
في كتابه “قصةُ إنسانٍ من لبنان” (مكتبة المعارف، بيروت، أَيار/مايو 1954) روى سيرة شاب من بيروت سَمّاه سليم، لكنه في الواقع هو مصطفى فروخ ذاته: في طفولته وصباه وشبابه وانصرافه إِلى الرسم وسفره إِلى پاريس للتخصُّص وعودته إِلى بيروت ومزاولته الرسمَ في بيئةٍ لم تكن ترى في الرسام قيمته الفنية العالية.
تبعثَرَت الأَوراق وانكسرَ القلَم
تبدأُ القصة بِهرَب الولد سليم من عصا أُمه التي هجمَت تنهال عليه لأَنه كان يُمضي وقته في الرسم على الورق، خلافًا لأَقرانه الأَولاد الذين يلعبُون ويلهُون في الحي، بينما هو غارقٌ في التصوير، ما كان يضايق أُمه ويدفعها أَحيانًا إِلى ضربه. وكان والده قبل وفاته يؤَنّبه على تلك الرسوم ويُخَوّفه من عذاب جهنَّم ونارها الهائلة إِن هو ظلّ يرسم. وكان لسليم صندوق صغير وضع فيه وريقاته وقلمَه الصغير، فأَخذَتْه أُمه يومًا وَرمَتْه على درَج البيت فتكسَّر الصندوق وتبعثَرَت الأَوراق وانكسر القلم.
عنادُه في متابعة موهبته
لم تكن الأُم تدرك ما تعني تلك الرسوم، وما يعني تعلُّقُ الولد بها، وما تُخبِّئ وراءَها من موهبة. وبانتقال الولد من الكُتَّاب إِلى مدرسة جديدة، وجَد فيها مَن يشجِّعُه على الرسم، فاسترسل في تغذية موهبته بالرسم المتواصل، وبِحُلْم أَن يزور يومًا بلدانًا يسمع عنها من معلِّميه أَنها عواصم الرسم والنحت، مثل إِيطاليا وفرنسا، وعن فنانين كبار مثل ميكالانج ورامبرانت ودوڤنتشي. وكبر الفتى فأَصبح يرسم وجوهَ بعض الناس لقاءَ نقود يَجمعُها ويَحلم بالسفر لزيارة المتاحف الكبرى في أُوروپا.
تَمّ له ذلك بعد سنواتٍ رغم مُمانعة والدته، فسافر إِلى مرسيليا بباخرةٍ تَعرَّف فيها بالفرنسي مسيو دورييه، حتى إِذا انتقل بالقطار إِلى پاريس راح دورييه يَجول بسليم فيها فصحبه إِلى مونپارناس ومتحف اللوڤر والشانزيليزيه والمسارح ودُور الأُوپرا وحديقة اللوكسمبورغ ومتحفها، وسليم يقارن بين ما يعاين ويشاهد، وبين بلاده التي فيها إِهمال وفوضى وجهْل ومَحسوبيات واستبعاد أَصحاب الكفاءَات.
صدمة البيئة بعد عودته
نال سليم دِپلوم الفنون من المعهد العالي في پاريس، ونَوى الاستقرار فيها، لكنَّ برقيةً عاجلةً من بيروت فاجأَتْه بِمرض أُمه تستدعيه إِلى العودة، فعاد إِلى بيروت وصَدَمَهُ الفارق في مشاهداته ومقارناته بين پاريس وبيروت. وحين كان يومًا يمشي في أَحد شوارع بيروت توقَّفَت حَدَّهُ سيارة بويك ضخمة حيَّاه منها رجلٌ بَدِينٌ لم يعرفه سليم أَولًا، ثم تنبَّه له فإِذا هو رفيق طفولته معروف الذي في صباه وشبابه سُجِن مرارًا لتُهَمٍ عدة، وها هو أَصبح “زعيم الحي” وله مَحاسيب وأَزلام.
ويختم مصطفى فروخ كتابه “قصة إنسان من لبنان” بِحسرة الفنان الذي يَحلُم أَن يكون رسولًا في وطنه، فيصطدم بواقعِ مَنْ يتزعَّم قومَهُ ولو في طرق ملتوية.
غير أَن الزمنَ عادل: فها “زعيم الحي” غرقَ في النسيان، بينما لا يزال مصطفى فروخ، حتى اليومِ وكلِّ يومٍ آتٍ، اسمًا مضيئًا في تاريخ لبنان المعاصر، بلوحاته التي لا تزال تنبض بالحياة كلما رَنا إِليها مَنْ يَقرأُ فيها عبقريةَ تلك الريشة التي رسم بها مصطفى فروخ زَمَنًا مُشِعًّا من جمال لبنان.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.