أميركا وسواها

الدكتور فريد الخازن*

الولايات المتحدة دولةٌ عُظمى لجهةِ نفوذِها ودورِها في السياسة الدولية وقدراتها العسكرية والاقتصادية. بعد تفكُّكِ الاتحاد السوفياتي وانتهاءِ الحربِ الباردة برزت مقولة “نهاية التاريخ” وباتت أميركا بلا مُنازع، إلى حين بروز الصين، مُنافسة طموحة ومُتمكّنة. لم تَشُقّ أميركا طريقها إلى النفوذِ العالمي عبرَ الاستعمارِ التقليدي الذي خبرته بريطانيا وفرنسا ودولٌ أُخرى، ولم تَرِث بالتالي عُقَدَ ذنبٍ مُلازِمة. لعلَّ أهمّ ما يُميّزُ الولايات المتحدة وسياستها الخارجية أنها براغماتية إلى أبعدِ حدودِ المُمكِن، ويتشاركُ بذلك الحزبان الديموقراطي والجمهوري. وللانعزاليةِ جذورٌ في المؤسّسات والمجتمع الأميركيين، إلّا أنه تمَّ تجاوزها بعد الحرب العالمية الثانية، وتحديدًا جرّاء الحرب الكورية، وقد تعودُ بأشكالٍ مختلفة مع الرئيس دونالد ترامب في ولايته الثانية.

في المُقابل، إثْر انتهاءِ الحرب الباردة اعتمدت الصين نموذجًا غير مسبوق قوامه الدمج بين شيوعية النظام المُطلَق والرأسمالية وأصبحت المُنافس الأوّل لأميركا في الاقتصاد المُعَولَم والتكنولوجيا ورؤوس الأموال وسواها. أمّا عسكريًا فالمُبارزة ساحتها جنوب شرق آسيا، ومحورها تايوان، المدعومة أميركيًا منذُ الثورة الماوية أواخر الأربعينيات الفائتة. لكن خارج هذه الدائرة تبقى أميركا صاحبة النفوذ الراجح سياسيًا وعسكريًا. وهي أيضًا ركيزةُ حلف شمال الأطلسي (الناتو)، المظلّة الأمنية في أوروبا، بمواجهة روسيا. أمّا مسارُ الحرب بين روسيا وأوكرانيا فقد يتبدّلُ خلال ولاية ترامب الثانية باتجاهِ تسويةٍ لا تُرضي أوكرانيا وداعميها الأوروبيين.

في المُقابل، الشرقُ الأوسط مسألةٌ أُخرى والمُقارَبة الأميركية فيه على “القطعة”، فضلًا عن ردودِ الفعلِ الموضعية. في مطلعِ الحربِ الباردة تحدّدت المحاور ولم يَكُن الشرق الاوسط في صدارة الاهتمامات الأميركية بل كوريا (الجنوبية والشمالية) وأوروبا الشرقية. لكن سرعان ما دخلت واشنطن محاور نزاعات المنطقة وكانت حرب السويس في 1956 البداية، حيث ألزَمت أميركا بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على الانسحاب من سيناء بلا شروط وحسمت بذلك قيادتها للمعسكر الغربي. لم يُصبح النزاعُ العربي–الإسرائيلي في صلبِ الاهتماماتِ الأميركية إلّا بعد حرب 1967. الانتصارُ الحاسم في حرب 1967 استغلّته إسرائيل ومؤيّدوها في الولايات المتحدة لتسويقِ أهمّية التحالف الاستراتيجي مع الدولة العبرية بدل الاكتفاء بالدعم التقليدي. جاءت حربُ 1973 لتُعيد التوازُن بين العرب وإسرائيل ولتُمَهِّد لدورٍ أميركيٍّ فاعلٍ في إتمامِ معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في 1979. وفي العام نفسه سقط نظام الشاه محمد رضا بهلوي واصطدمت إيران الإسلامية بأميركا، “الشيطان الاكبر”. وبعد حرب تحرير الكويت من الاحتلال العراقي، أطلق الرئيس جورج بوش (الأب) المفاوضات العربية–الإسرائيلية ونتجَ عنها اتفاق اوسلو ومعاهدة السلام بين الأردن وإسرائيل.

اعتداءاتُ 11 أيلول (سبتمبر) 2001 نقلت الاهتمامُ الأميركي من الصين إلى الشرق الأوسط. وبعد حرب أفغانستان غير المُكلفة جاء اجتياحُ العراق في 2003، وهي الحرب الوحيدة التي خاضتها أميركا في المنطقة لوحدها وبلا غطاء دولي. وسرعان ما بدأت الانتكاسات المُكلفة بعد سقوط نظام صدام حسين، إلى أن انسحبت القوات الأميركية من العراق في عهد باراك اوباما وانتقلَ التركيزُ إلى سوريا. وفي التسعينيات أعطت واشنطن الغطاءَ للسيطرة السورية في لبنان إلى حين الحرب الأميركية في العراق. أمّا تَلازُم المسارَين فقضى بحصرِ الجبهة في جنوب لبنان بقيادة “حزب الله” للتحرير من الاحتلال الاسرائيلي، بينما كان الجولان المحتل نموذجًا في الهدوء والالتزام بالاتفاقات القائمة. تواصلت المواجهات في لبنان وجاءَ تفاهُمُ نيسان (أبريل) في 1996 أداةَ تنظيمٍ للحربِ وبإشرافٍ دولي بين “حزب الله” وإسرائيل شرط تفادي الأهداف المدنية، إلى أن تمَّ التحريرُ في العام 2000 بعدما جعلَ الحزبُ الاحتلالَ بالغ الكلفة وصعب التبرير. صدامٌ عسكري آخر في 2006 أنتجَ القرارَ الأُممي 1701 ولم يُنهِ النزاع، إلى أن جاء “الطوفان” وجرفَ معه “الأخضر واليابس”.

الواقع أنَّ لبنان مسألةٌ رديفةٌ في الحسابات الأميركية. ففي أزمة العام 1958 جاءت قوات المارينز إلى بيروت مُباشرةً بعد انقلابِ العراق لوَضعِ حدٍّ لتَمَدُّد المحور المُناوِئ. وفي 1982 جاءت القوات الدولية، وفي مقدمها الأميركية، في مهمّةٍ غير مُرتَبطة بالمواجهات العسكرية. حصلَ الاعتداءُ على القوات الأميركية والفرنسية في مقارهما وتكبّدت خسائر فادحة، ما أدّى إلى انسحابها. استعادت سوريا، مدعومةً من الاتحاد السوفياتي، نفوذها في لبنان وانسحبت إسرائيل إلى “الحزام الأمني” في الجنوب. سَلّمَت واشنطن بالأمرِ الواقع إلى حين اندلاِع حَربَي غزة ولبنان. ومع رَبطِ نزاعٍ برعايةٍ إيرانية، عادت أميركا إلى الساحة بقوّة دعمها لإسرائيل. إلّا أنَّ العداءَ بين أميركا وإيران لم يَحُل دون التفاوض الثُنائي ولم يُخفّض حدّة العداء بين إسرائيل وإيران.

في العقود الماضية، تبدّلت أولويات واشنطن في المنطقة وباتَ النفطُ أقلَّ أهمّية من قبل، وإن ظلَّ بالغَ الأهمّية لحلفائها، والولايات المتحدة الآن تُصدّرُ ما يفيضُ من استهلاكها المحلّي. إيران لا تزال في “محور الشر” بالمفهوم الأميركي وإلى جانبها الإرهاب المُعَولَم لا سيما “داعش” و”القاعدة”. أما النزاعُ العربي–الإسرائيلي فمحوره إسرائيل والسير باتجاه التطبيع وإقامة حُكمٍ ذاتي مُلحَق يرفضه الفلسطينيون ومعهم المملكة العربية السعودية ودول عربية وإسلامية. ولن تتّضِحَ وجهة المسار الموعود إلّا بعد مداولاتٍ أميركية–سعودية مُرتَقَبة بعد حين، عسى ألّا يكون الآتي أعظم.

  • الدكتور فريد الياس الخازن هو سياسي ونائب لبناني سابق، وسفير لبنان لدى الفاتيكان بين 2018 و2024. كان سابقًا أستاذًا محاضرًا ورئيس قسم الدراسات السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت. ورد إسمه أخيرًا على لائحة المُرَشَّحين لرئاسة الجمهورية في لبنان.   

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى