الاقتصادُ الروسي هو أعظم نقاط ضُعفِ بوتين

فيما يبدو الغرب مُحتارًا بالنسبة إلى كيفية التعاطي مع روسيا للجم توسّعها، تبقى العقوبات الأكثر قسوة هي التي ستدفع فلاديمير بوتين إلى التفاوض مع أوكرانيا.

الرئيس فلاديمير بوتين: الإقتصاد هو “عقب أخيل” بالنسبة إليه.

ثيودور بونزل وإيلينا ريباكوفا*

في العام 1762، أثناء حرب السنوات السبع، بدا الوضعُ  بالنسبة إلى ملك بروسيا فريدريك العظيم مأساويًا. فقد بدأ الجيش الروسي القيصري، بعدما استنفد قوات البروسيين، الزحفَ وتهديد برلين. لكن بعد ذلك حدثَ ما لا يُمكِن تصوّره: توفيت إمبراطورة روسيا إليزابيث، وأَوقَفَ خليفتها المُحِب لبروسيا، الإمبراطور بيتر الثالث، الجيش الروسي فجأةً وطالبَ بالسلام، بل وأعارَ قواتٍ روسية لفريدريك. وما أطلقَ عليه فريدريك “معجزة آل براندنبورغ” يظلُّ مثالًا صارخًا على كيف يُمكن للتغيير السياسي والتعاطُف الشخصي لزعيمٍ جديد أن يقلبَ فجأةً صراعًا دوليًا رأسًا على عقب.

قد لا يرقى فوزُ دونالد ترامب الحاسم في الانتخابات الرئاسية الأميركية إلى معجزة “آل بوتين”، لكنه يُعطي الكرملين دفعةً في حربه ضد أوكرانيا. إنَّ ترامب مُتشكّكٌ في الدعم الأميركي لكييف، ووعدَ بإنهاء القتال. وقد يبدو تعهّده بحلِّ الصراع “في غضون 24 ساعة” وكأنه نفاقٌ، لكنه يعكسُ إجماعًا متزايدًا في واشنطن يؤيد التوصُّلَ إلى حلٍّ تفاوضي.

لكن على النقيض من بروسيا في العام 1762، فإنَّ روسيا اليوم ليست في وَضعٍ حرج؛ بل إنَّ جيشها بدأ يربح المزيد من الأرض. وتعتقدُ موسكو أنها تتمتّعُ بالزخم وليست مُستَعدّة للتنازل. في الوقت نفسه، تصرُّ كييف على الصمود والبقاء في المعركة وليست في مزاجٍ للاستسلام. وبالتالي فإنَّ تحويلَ حماس ترامب لإنهاءِ الحرب إلى تسويةٍ مُستقرّة يتطلّبُ من الغرب أوّلًا تكثيف الضغوط على موسكو من أجل اكتسابِ النفوذ على طاولة المفاوضات. وإلّا فإَّنَّ وقفَ إطلاق النار المُتسرّع بشروطٍ مواتية للغاية لروسيا قد يصبح ببساطة مجرّدَ توقُّفٍ قصير قبل أن يلجأ الكرملين إلى المزيد.

ولحسن الحظ بالنسبة إلى الغرب، تُعاني روسيا من نقطة ضعف حرجة: اقتصادها. فقد يقبل العديد من المراقبين الرواية الكسولة القائلة بأنَّ العقوبات المفروضة على موسكو في بداية الحرب لم تنجح، وأنَّ اقتصادها يزدهر. الواقع أنَّ العقوبات ألحقت أضرارًا كبيرة وقلّصت من مساحة الكرملين للمناورة السياسية، والآن أصبح اقتصادُ روسيا مُشَوَّهًا بشكلٍ خطير مع تراكُم تكاليف الصراع. ويُجمع الخبراء على أنَّ العرضَ من العمالة يتقلّصُ مع مقتل أو إصابة مئات الآلاف من الرجال الروس في ساحة المعركة ــ لقد تكبّدت روسيا 1500 ضحية يوميًا في تشرين الأول (أكتوبر) الفائت. كما يلتهمُ الإنفاق الدفاعي الميزانية العامة. وإذا تباطأت عائدات موسكو من الطاقة ــشريان الحياة للاقتصاد الروسي ــ ووارداتها من السلع ذات الاستخدام المزدوج المصنوعة في الغرب بشكلٍ كبير، فقد تُواجهُ أزمة اقتصادية وعسكرية. ومن شأنِ تشديد الخناق على العقوبات أن يجعلَ جهود موسكو الحربية الهائلة أقل استدامة من الناحية المالية، ومع احتمالات تعطّل آلة الحرب والسخط المحلّي إزاءَ تدهور الظروف الاقتصادية، فقد يشعرُ فلاديمير بوتين بضغوطٍ تدفعه إلى قبولِ شروطٍ أكثر مُلاءَمة لأوكرانيا.

الواقع أنَّ واشنطن وشركاءها الأوروبيين قادرون على التحرّك على الفور، والاستفادة من الأسابيع الُمتبقّية من إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن للضغط على وصول روسيا إلى عائدات الطاقة وواردات التكنولوجيا. والآن بعد أن انخفضت أسعار النفط ومعدلات التضخم في الولايات المتحدة وأوروبا، ينبغي للحكومات الغربية أن تكون أكثر استعدادًا لتعطيل تدفّقات الطاقة الروسية مقارنةً بما كانت عليه في العام 2022. وعندما يتولى ترامب منصبه، ينبغي لإدارته أن تُرَحِّبَ بهذه الجهود، بل وحتى البناء عليها. ومن شأن القيام بذلك أن يُعزّز موقف ترامب في المفاوضات الروسية-الأوكرانية، وأن يعودَ بالنفع على شركات الطاقة الأميركية، وأن يضمنَ تنازُلات سياسية من أوروبا ــ وهي كلها نتائج يمكن لترامب أن يزعمَ أنها انتصارات.

الشقوق في الأساس

بعد غزو روسيا لأوكرانيا في شباط (فبراير) 2022، كان التفاؤل بأنَّ العقوبات الغربية من شأنها أن تشلَّ الاقتصاد الروسي في أوجه. فقد فرض الاتحاد الأوروبي، إلى جانب الولايات المتحدة ودول أخرى، قيودًا مالية شاملة على روسيا، بما في ذلك فرض عقوبات على البنك المركزي في موسكو وضوابط تصديرية بعيدة المدى. وكان هذا جهدًا مثيرًا للإعجاب، وأعلن بايدن أن العقوبات من شأنها أن تُحوِّلَ الروبل في نهاية المطاف إلى “أنقاض”.

مع ذلك، نما الاقتصاد الروسي بنسبة 3.6٪ في العام 2023 ومن المتوقع أن ينمو بالمعدل نفسه في العام 2024. ومن المرجح أن يتجاوز فائض الحساب الجاري لموسكو -قيمة صادراتها مطروحًا منها الواردات – 60 مليار دولار في العام 2024، ارتفاعًا من 50 مليار دولار في العام 2023. وقد أبقت عائدات النفط المرتفعة عجز ميزانيتها قابلًا للإدارة. كما وجدت روسيا طرقًا للحصول على التكنولوجيا الغربية لجيشها من خلال دول ثالثة وإعادة توجيه الكثير من تجارتها المفقودة من أوروبا إلى الصين والهند.

لكن هذه الأرقام تخفي نقاطَ ضعفٍ اقتصادية أساسية، تفاقمت بسبب العقوبات الغربية. فالتضخّم في روسيا يتجاوز 8% مع ارتفاع حرارة الاقتصاد بسبب الإنفاق الضخم في زمن الحرب وتناقُص المعروض من العمالة، مما أجبر البنك المركزي على رفع أسعار الفائدة إلى أكثر من 20%. ويدفع هذا التضخم نمو الأجور الاسمية، والذي من المتوقع أن يصل إلى 17%. ويحوم معدل البطالة حول 2% – وهو رقمٌ منخفض بشكل مذهل، إلى جانب نموِّ الأجور ومكافآت التسجيل الضخمة للجيش، مما يشير إلى منافسة شديدة على العمالة النادرة. وفي نهاية تشرين الثاني (نوفمبر)، انهار الروبل إلى أدنى مستوى له في عامين، نتيجةً لارتفاع التضخم وتناقص تدفقات العملة الصعبة -من 34 مليار دولار في آذار (مارس) 2022 إلى 2 ملياري دولار في أيلول (سبتمبر) 2024- بسبب العقوبات المالية.

وتتعرّضُ موازنة روسيا أيضًا لضغوط. يرفع الكرملين الإنفاق الدفاعي بنسبة 25% في العام 2025، إلى ما يعادل أكثر من 6% من الناتج المحلي الإجمالي؛ وبالمقارنة، فإن موازنة الدفاع الأميركية أقل من ثلاثة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة. ويُمثّل الدفاع الآن ثلث موازنة الدولة الروسية وأكثر من ضعف إنفاقها على الخدمات الاجتماعية. وفي العام الماضي، خططت موسكو لخفض الإنفاق الدفاعي بنسبة 21 في المئة في العام 2025. ويشير هذا التراجع إلى أنَّ روسيا تخضع لضغوطٍ عسكرية أكبر مما توقعت.

نقاطُ الضغط

من بين هذه المشاكل الاقتصادية نقاطُ ضعفٍ مُحَدَّدة يمكن للغرب استغلالها. الطاقة هي واحدة منها: تُمثّلُ صادرات النفط والغاز ما يقرب من ثلث عائدات الحكومة، وتسدُّ العائدات فجوةَ الموازنة في روسيا وتدعم الاقتصاد. تمكنت موسكو من الالتفاف حول سقف سعر النفط الذي فرضته دول مجموعة السبع في أواخر العام 2022، ما أدّى إلى تقليصِ الفارق بين أسعار النفط الروسية وأسعار النفط الخام العالمية من 30 دولارًا للبرميل إلى 10 دولارات للبرميل. اليوم، تكسبُ روسيا 60 إلى 70 دولارًا مقابل برميل النفط الذي تبيعه. وإذا تمَّ دفعُ هذه العائدات إلى 40 أو 50 دولارًا للبرميل، فقد يؤدي ذلك إلى دفع الاقتصاد إلى أزمة.

إنَّ التدفُّقَ الثابت لإيرادات الطاقة في روسيا هو إلى حدٍّ كبير نتيجة لاختيارات الغرب. في العام 2022، ارتفعت أسعار النفط العالمية إلى أكثر من 100 دولار للبرميل وبلغ التضخم في الولايات المتحدة ذروته عند أكثر من تسعة في المئة. لقد أعفت واشنطن وشركاؤها الأوروبيون قطاع الطاقة من العقوبات المالية المفروضة على روسيا خوفًا من أن يؤدي تعطيل صادرات روسيا من النفط الخام إلى ارتفاع الأسعار العالمية والإضرار باقتصاداتها. وكان هذا الخوف أيضًا في مقدّمة الأذهان عندما وضعت مجموعة الدول السبع سقفًا لسعر النفط. فبدلًا من محاولة تقييد الصادرات الروسية، استخدمَت سقفَ الأسعار كخطّةٍ مُعقّدة ومتسرّبة لمحاولة إجبار أسعار النفط الروسية على الانخفاض بدون خفض الإمدادات إلى الأسواق العالمية. واعتمدت على هيمنة الغرب على التأمين على الشحن والتمويل لإجبار المصدّرين الروس الذين يستخدمون هذه الخدمات على البيع بأقل من السقف. وقد نجح هذا لبضعة أشهر، ولكن مع قيام روسيا ببناء أسطولِ ظِلٍّ (شبح) من الناقلات التي تتجنّب الخدمات الغربية، تمكّنت من تجاوز السقف.

لكن في الوقت الحاضر، لم تَعُد هناك حاجة إلى ضبط النفس الغربي. فقد انخفضَ التضخُّم في الولايات المتحدة ومنطقة اليورو إلى ما يقرب من 2%، وأصبحت أسواق النفط أكثر مرونة: إذ يفوق نمو العرض الطلب العالمي المُتراجِع، مما يؤدي إلى انخفاض الأسعار. ويتداول النفط عند مستوى 70 دولارًا للبرميل، وقد ينخفض ​​السعر أكثر إذا نفّذَ ترامب وعوده بتحرير إنتاج الطاقة الأميركي. وإذا تسببت العقوبات الغربية الأكثر صرامة في انخفاض صادرات النفط الخام الروسية بنحو مليون برميل يوميًا ــأي نحو خمس صادرات روسيا الحاليةــ فإنَّ هذا لن يؤدي إلى كارثة اقتصادية عالمية، كما كان سيحدث في العام 2022. ونظرًا لانخفاض تكاليف الإنتاج في روسيا والحاجة الملحة إلى عائدات الطاقة لتغذية آلة الحرب، فمن غير المرجح أن تمتنع موسكو وتوقف صادرات النفط لمجرّد الانتقام من الغرب.

ويُشكّلُ اعتمادُ روسيا على التكنولوجيا الغربية في أنظمة أسلحتها نقطةَ ضعفٍ أخرى مهمة. وفقًا لدراسة أجرتها مجموعة العمل الدولية “يِرماك-ماكفول” المعنية بالعقوبات الروسية ومعهد كييف للاقتصاد في كانون الثاني (يناير) 2024، فإنَّ 95 في المئة من جميع المكوّنات الأجنبية الموجودة في الأسلحة الروسية في ساحة المعركة في أوكرانيا جاءت من دولٍ غربية. وشكلت المكوّنات من الشركات التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرًا لها وحدها 72 في المئة. إنَّ تقييد تدفُّق البضائع إلى روسيا من طريق وسطاء، وخصوصًا في الصين وهونغ كونغ، ومع فرض ضوابط التصدير الغربية بشكلٍ أقوى، ستضطر روسيا إلى القيام بإعادة توجيه مُكلفة لسلاسل التوريد العسكرية الخاصة بها لتشمل تكنولوجيا ومكوّنات صينية أدنى، مما يتسبب في حدوث اضطرابات ونقص في إمدادات الأسلحة إلى الخطوط الأمامية.

الخطوات الأولى

لا يزال لدى إدارة بايدن الوقت لتكثيف الضغوط على روسيا، بدءًا بالخطوات التي تستهدف عائدات الطاقة الروسية. في الأشهر الأخيرة، تم نقل أكثر من 90 في المئة من صادرات النفط الخام الروسية إلى الصين والهند عبر أسطولٍ ظلّ يضمُّ أكثر من 400 ناقلة. لا يشمل الأسطول سفنًا غربية ولا يستخدم تأمين تسرُّب النفط الغربي وبالتالي لا يخضع لسقف سعر النفط. يمكن لمكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية إيقاف هذا الأسطول عن العمل من خلال فرض عقوبات على السفن الفردية، كما فعل أصلًا مع 53 ناقلة نفط. أيُّ كيانٍ يتفاعل مع سفينةٍ خاضعة للعقوبات يخاطر بعقوبات ثانوية أميركية، والتي أثبتت أنها رادعٌ قوي. فرضت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي معًا عقوبات على 118 ناقلة، ولدى المسؤولين معلومات كافية عن الباقي لاتخاذِ إجراءاتٍ سريعة. بمجرّد أن تُجبِرَ هذه التدابير المزيد من البراميل الروسية على العودة إلى ما دون سقف السعر، يمكن للحكومات الغربية تشديد القيود بشكلٍ أكبر من خلال خفض السقف من 60 دولارًا للبرميل الحالي إلى حوالي 40 دولارًا للبرميل. كما يمكنها معالجة الاحتيال المتفشّي في الشهادات من خلال توفير معايير القائمة البيضاء التي من شأنها دعوة الشركات الشرعية، والتي من المرجح أن تمتثل للحد الأقصى، للعودة إلى تجارة النفط الروسية.

كما يمكن للولايات المتحدة وحلفائها التحرُّك بسرعة لوقف تدفّق السلع والآلات الغربية ذات الاستخدام المزدوج إلى روسيا، حيث يتم استخدامها لتجهيز الجيش الروسي. حتى الآن، امتنع تحالف العقوبات عن استخدام العقوبات الثانوية لاستهداف الوسطاء الذين ينقلون هذه السلع إلى روسيا، مما يسمح لشبكات التهرُّب بالنمو في آسيا الوسطى وشرق آسيا والشرق الأوسط. يجب أن ينتهي هذا القيد. يجب على الغرب أن يفرض عقوبات على الموزّعين في دولٍ مثل الصين وتركيا والإمارات العربية المتحدة – بما في ذلك أولئك الذين يتظاهرون زورًا بأنهم مستخدمون نهائيون للمنتجات الغربية ولكنهم يبيعون البضائع إلى إيران أو كوريا الشمالية أو روسيا.

إنَّ الامتثال لضوابط التصدير يحتاج إلى تعزيز أيضًا. فالشركات التكنولوجية الغربية تجري حاليًا عمليات فحص بسيطة على عملائها وموزّعيها وتفتقر إلى القدرات اللازمة لفرض قواعد صارمة لمعرفة العملاء مُماثِلة لتلك التي تفرضها المؤسّسات المالية. ويتعيّن على إدارة بايدن أن تتخذ إجراءات تنظيمية سريعة لرفع معايير العناية الواجبة الإلزامية للشركات في ما يتصل بمبيعات التكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج في أماكن مثل الصين، وتكثيف تحقيقات وزارة التجارة في التهرب من ضوابط التصدير، والتهديد بفرض غرامات كبيرة على الانتهاكات.

وأخيرًا، تستطيع إدارة بايدن أن تفعل المزيد لضمان دفع روسيا ثمن الضرر الذي ألحقته بأوكرانيا. وكجُزء من قانون إعادة بناء الرخاء الاقتصادي والفرصة للأوكرانيين الصادر في تموز (يوليو) 2024، يتطلب مكتب مراقبة الأصول الأجنبية الآن من المؤسسات المالية الإبلاغ عن الأصول السيادية الروسية التي هي في ولاية الولايات المتحدة، ويلتزم الرئيس بتقديم تقرير إلى الكونغرس بشأن النتائج. وقد يكشف نشر هذه المعلومات أن الولايات المتحدة تحتفظ بمزيد من هذه الأصول مما يُعتقد حاليًا، والتي يمكنها بعد ذلك الاستفادة منها إما كقوة مساومة مع روسيا أو كمساعدة لأوكرانيا. ومن شأن تطبيق هذه التدابير الخاصة بالمساءلة أن يشجع أيضًا الدول الغربية الأخرى على القيام بالمثل.

أوراق أوروبا

لدى أوروبا طرقها الخاصة في ممارسة الضغوط الاقتصادية على روسيا، حتى لو قرّر ترامب أن يتعامل بلطف مع بوتين. ويمكن للاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة تحديد ومعاقبة ناقلات النفط الروسية الجديدة بمفردهما، على سبيل المثال، للحفاظ على سقف أسعار النفط. كما إنَّ أوروبا لديها بطاقة جغرافية للعب. فصادرات روسيا من النفط الخام من ساحلها البلطيقي تمر عبر المضايق الدانماركية، وصادراتها من البحر الأسود عبر مضيق جبل طارق. وغالبًا ما تمرُّ هذه السفن بدون تفتيش أو تأمين مناسب ضد تسرّب النفط. ومع وجود إرادة سياسية كافية وتحالف كبير بما فيه الكفاية، يمكن للدول الساحلية بما فيها الدانمارك وإسبانيا والمملكة المتحدة، وربما بدعمٍ من حلف شمال الأطلسي، تفتيش الناقلات والتحقق من أن تأمينها يفي بمتطلبات المنظمة البحرية الدولية. وهذا من شأنه أن يُجبرَ روسيا على استخدام تأمين وناقلات غربية أعلى جودة لصادراتها النفطية، والتي لن تكون مُتاحة إلّا إذا باعت بأقل من سقف السعر.

وقطاع الغاز في روسيا مُعرَّضٌ للخطر أيضًا. فقد سجلت شركة الطاقة التي تسيطر عليها الدولة “غازبروم”، والتي كانت جوهرة تاج روسيا ذات يوم، خسارة مذهلة بلغت 7.3 مليارات دولار في العام 2023 حيث كافحت لاستبدال صادرات خطوط الأنابيب الأوروبية، والتي انخفضت من 154 مليار متر مكعب في العام 2021 إلى 27 مليار متر مكعب في العام 2023. وينبغي للاتحاد الأوروبي أن يتحرّك لحظر الغاز الطبيعي المُسال الروسي، الذي لا يزال يمثل 20 في المئة من وارداته. ويمكن للدول الأوروبية أن تعوّض الإمدادات المفقودة بالغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة، وهو ما يمكن لترامب تسهيله من خلال رفع قيود بايدن على الصادرات الأميركية – وهو الترتيب الذي يجب أن يُرحّب به ترامب، لأنه من شأنه أن يعزز شركات الطاقة الأميركية.

لكي يمنع السلع ذات الاستخدام المُزدوج دخول روسيا، يتعيّن على الاتحاد الأوروبي أن يُنشئ وكالة مركزية تعمل على تعزيز إنفاذ ضوابط التصدير عبر الدول الأعضاء. وينبغي له أيضًا أن يستخدم الآليات القائمة للحد من بيع السلع الصناعية الأوروبية الحيوية، مثل الآلات الآلية، إلى دول ثالثة. وقد ارتفعت صادرات هذه السلع إلى دول مثل كازاخستان وتركيا في السنوات الأخيرة، مما يشير إلى أنَّ طرق البيع تُستخدَم للالتفاف على العقوبات ودعم المجمع الصناعي العسكري الروسي.

وأخيرًا، يمكن للاتحاد الأوروبي أن يستفيد من حقيقة أنه يحتفظ بمعظم أصول البنك المركزي الروسي البالغة 300 مليار دولار والتي جمّدتها الدول الغربية بعد غزو العام 2022. ويمكن للاتحاد الأوروبي أن يُصادرَ بعض هذه الأصول ويستخدمها لتمويل الإمدادات العسكرية الأميركية الإضافية لأوكرانيا بشكلٍ غير مباشر. ويمكن لترامب أن الادّعاء بالفضل في تأمين الدفع الأوروبي للأسلحة الأميركية، وقد يساعد استمرار تدفق المساعدات العسكرية الأميركية الأساسية في إبقاء أوكرانيا في المعركة.

عامل ترامب

يجب أن يجذب جوهر ومضمون كل هذه الخطوات ترامب. إن توسيع صادرات الغاز الطبيعي الأميركية من شأنه أن يساعد المنتجين الأميركيين ويسمح لترامب بتحقيق الفوز في المفاوضات مع أوروبا. وينطبق الأمر نفسه على تأمين المشتريات الأوروبية من الأسلحة الأميركية. وسوف يكون ترامب قادرًا على ادعاء النجاح في الضغط على أوروبا لتكثيف دعمها لأوكرانيا على نحوٍ لم يفعله بايدن.

إنَّ تعزيز الضوابط الأميركية على صادرات التكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج من شأنه أيضًا أن يخدم الغايات الاستراتيجية لترامب. فهو من شأنه أن يبني القدرات التي يمكن لترامب أن يستفيد منها للحد من شحن المكوّنات العسكرية الغربية إلى خصوم الولايات المتحدة الآخرين مثل الصين وإيران. ومن الممكن أن تعمل إدارة ترامب على توسيع هذا الجهد أيضًا من خلال توفير أموال إضافية لمكتب الصناعة والأمن التابع لوزارة التجارة، والذي يدير ضوابط التصدير، وتحسين تنسيق هذه الوكالة مع مكتب مراقبة الأصول الأجنبية.

وفي نهاية المطاف، فإنَّ اتخاذَ إجراءات صارمة ضد اقتصاد روسيا وآلة الحرب الروسية هو الطريقة الأكثر فعالية من حيث التكلفة لإعطاء ترامب ما يريده بشدة: صفقة دائمة بين روسيا وأوكرانيا يستطيع أن ينسب إليه الفضل في تحقيقها. إن تعزيز النفوذ الاقتصادي على موسكو أقل خطورة من تصعيد الدعم العسكري لكييف بشكل كبير، وبدون ضغوط إضافية لن يكون لدى روسيا أي حافز للعب في العام 2025. وإذا تمكن ترامب من إقناع موسكو بقبول شروط الهدنة المعقولة من خلال الضغط على اقتصادها الضعيف، فلن يتبين أن انتخابه هو المعجزة التي كان بوتين يأملها.

  • ثيودور بونزل هو المدير الإداري ورئيس قسم الاستشارات الجيوسياسية في لازارد. عمل في القسم السياسي في السفارة الأميركية في موسكو وفي وزارة الخزانة الأميركية.
  • إيلينا ريباكوفا هي زميلة أولى غير مقيمة في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي وفي بروغل ومديرة برنامج الشؤون الدولية في كلية كييف للاقتصاد.
  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورِن أَفِّيرز” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى