لماذا ستظلُّ الحربُ معنا؟
كابي طبراني*
استحوذَ التحوُّلُ الدرامي للأحداث في الحرب الأهلية السورية التي دامت 13 عامًا على اهتمامِ العالم خلال الأسابيع القليلة الماضية. فقد أطاحَ هجومٌ سريعُ للمتمرّدين بقيادة “هيئة تحرير الشام” الدِيكتاتور بشّار الأسد، وخَلقَ فُرصةً لإنهاءِ الصراعِ الداخلي الطويل في سوريا. ومع استمرارِ الأعمالِ العدائية في أجزاءٍ من البلاد، فإنَّ السلامَ الدائم ما زالَ بعيدًا من اليقين، لكن إمكانية حدوثه وحدها كافية الآن لتكون أخبارًا سارة.
نظرًا للدراما التي حدثت في سوريا، كان من السهلِ تَجاهُلُ التطوّرات الإيجابية في حربٍ أُخرى طويلة الأمد. في الرابع من كانون الأول (ديسمبر)، توصّلت الحكومة الإثيوبية إلى وقفٍ لإطلاق النار مع “جيش تحرير أورومو”. كانَ الصراعُ بين أديس أبابا والجماعات المتمرّدة المختلفة في منطقة أوروميا مُشتَعلًا منذ أوائل سبعينيات القرن الفائت، حيث استمرَّ القتالُ بين الجيش الإثيوبي و”جيش تحرير أورومو” بعدما انشقّت “جبهة تحرير أورومو” بعد اتفاقِ سلامٍ وُقِّعَ في العام 2018. ويأتي الصراعُ في أوروميا إضافةً إلى حرب إثيوبيا ضد جبهة تحرير شعب تيغراي، التي استمرّت من العام 2020 إلى العام 2022، والقتالِ المُستَمِرِّ في منطقة أمهرة.
ومن المؤسف أنَّ هناكَ سببًا آخر ربما جعل وقف إطلاق النار في إثيوبيا يجذبُ قدرًا ضئيلًا من الاهتمام: فهو لم يَدُم طويلًا، حيث تَّم انتهاكُ شروط الاتفاق بالفعل. علاوةً على ذلك، لم يُعالِج وقفُ إطلاق النار سوى جانبٍ واحدٍ من أحد الصراعات التي تُعاني منها إثيوبيا والتي تُلحِقُ خسائر فادحة بشعبها.
إنَّ استمرارَ الصراعات الداخلية المُترابطة في إثيوبيا أمرٌ مُثيرٌ للقلق في حَدِّ ذاته. لكن هناكَ أيضًا مخاوف من أنَّ إثيوبيا وجارتها الشمالية إريتريا، التي انفصلت عنها في العام 1991 بعد حربٍ أهلية طويلة ودموية، على وشكِ الصراع مرّةً أخرى. خاضت الدولتان حربًا حدودية مُدمّرة في أواخر التسعينيات الفائتة تلاها صراعٌ مُجَمَّد حتى تمَّ التوصُّلُ إلى تسويةٍ سلمية في العام 2018. وقد أكسبت هذه التسوية رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد جائزة نوبل للسلام لعام 2019، لكن العلاقات بين الدولتين تدهورت منذ ذلك الحين. الواقع أنَّ العلاقات متوتّرة بين أديس أبابا وجارتيها الأخريين: مع الصومال، ويرجع هذا إلى حدٍّ كبير إلى الجهود التي تبذلها إثيوبيا، وهي دولة غير ساحلية، للحصول على إمكانية الوصول إلى السواحل من طريق “أرض الصومال”؛ ومع مصر، بسبب النزاعات حول مشروع سد “النهضة” الضخم الذي تبنيه إثيوبيا على نهر النيل. وأيٌّ من هذه الصراعات المُحتملة من الممكن أن يؤدّي إلى زعزعةِ استقرارِ منطقة القرن الأفريقي بالكامل.
إنَّ استعصاءَ حَلِّ الصراع في إثيوبيا وما حولها يُشيرُ إلى مَصدرِ قلقٍ أوسع نطاقًا، وهو أمرُ يستحق التامُّلَ والتفكيرَ فيه بينما نختتمُ عامًا آخر قياسيًا من الصراع العالمي: استمرار الحرب. وفقًا للبيانات التي جمعها خبراء الصراعات، لم يَكُن هناكَ عامٌ واحدٌ في السنوات المئتي الماضية لم يشهد حربًا في مكانٍ ما على الكرة الأرضية. ولكي نكون واضحين، فإنَّ الحروبَ لا تحدثُ في كلِّ مكان. الواقع أنَّ غالبية الأماكن خالية من الحرب في معظم الأوقات. وفي كتابه الأخير “لماذا نقاتل”، يُلاحِظُ خبير الشؤون السياسية والاقتصادية الكندي-الأميركي كريس بلاتمان أنَّ الحربَ لا تزالُ تُشَكّلُ استثناءً في الحياة اليومية بالنسبة إلى كثيرين، مُضيفًا أنَّ “حتى أشد الأعداء ضراوةً يفضّلون كراهية بعضهم البعض في السلام”. لكنَّ الحربَ تحدثُ دائمًا في مكانٍ ما على االكرة لأرضية، وبالنسبة إلى أولئك الذين يعيشون وسطها، فهي تجربةٌ مُدمّرة مليئة بأقسى القسوة التي يمكن للبشر أن يفرضوها على بعضهم البعض.
لطالما كان سببُ استمرارِ الحرب يُنظَر إليه باعتباره المشكلة الأساسية التي تواجه البشرية. وتُركّزُ التخصُّصات الأكاديمية بأكملها على فَهمِ استمرارِ الحرب وأسبابها. في الآونة الأخيرة، انخرط ريتشارد أوفري، المؤرّخ البريطاني المُتخصّص في الحرب العالمية الثانية، في مُراجعةٍ شاملة لما هو معروف عن أسباب الحرب في مختلف التخصّصات الأكاديمية. وكان استنتاجه أنه على الرُغم من كثرة الأسباب المُحتَملة للحرب، فإنَّ السمة الأساسية للحرب هي أنها لم ولن تُستأصَلَ أبدًا.
إنَّ هذا التقييمَ يتناقضُ مع الرأي القائل بأنَّ العُنفَ بجميع أشكاله يتضاءل، وأنَّ الحربَ ليست استثناءً. وربما كان العالم السيكولوجي الكندي-الأميركي ستيفن بينكر هو الأكثر شهرة في طرح هذا الرأي في كتابه الأكثر مبيعًا “الملائكة الطيبون في طبيعتنا”. لكن يبدو أنه من الصعب قبول هذا الرأي، سواء في ضوءِ حالاتٍ مُحَدَّدة من الصراعات المُستَعصية على الحل، فضلًا عن العدد القياسي للصراعات على مستوى العالم في السنوات الأخيرة. وحتى لو كان عدد الحروب في انخفاض، وهو أمرٌ لم يحدث، فإنَّ الحرب نفسها لا تزال بعيدة من نهايتها.
لماذا تستمر الحرب؟ لماذا حتى لو انتهت الحال بإثيوبيا أو سوريا إلى التمتُّع بالسلام في وقت قريب، فمن المرجح أن تحلَّ محلها حربٌ أخرى في مكان آخر؟ كما أوضح المؤرّخ أوفري في كتابه، هناك العديد من الأسباب المحتملة.
ألقى بعض الباحثين والخبراء، مثل خبير السياسة الألماني-الأميركي المشهور في منتصف القرن العشرين هانز مورغنثاو، باللوم على الطبيعة البشرية. وكما كتب مورغنثاو في كتابه “السياسة بين الأمم”، “لا يُقاتلُ الرجال لأنهم يحملون السلاح، بل يحملون السلاح لأنهم يرون أنَّ القتالَ ضروري”. ويرى آخرون أنَّ سببَ الحرب يرجعُ إلى غياب حكومةٍ عالمية: إذ تسعى الدول إلى الدفاع عن نفسها بل وحتى مهاجمة الدول الأخرى بدافع الخوف. ومن ناحيةٍ أخرى، فإنَّ غيابَ حكومةٍ عالمية يعني أنَّ بعضَ الدول قد يستغلُّ الآخرين بجشعٍ لأن “الشرطة العالمية” لا تستطيع أن تستدعيه لوقفه ومنعه.
ويزعمُ آخرون أنَّ الحربَ تستمرّ لأنَّ البشر لم يتبنّوا الديموقراطية إلّا أخيرًا كشكلٍ من أشكال الحكم. ورُغم أنَّ العام 2024 ربما كان عامًا قياسيًا للصراع، فإنه كان أيضًا عاما قياسيًا للانتخابات. ومع صعود الديموقراطية، فإنَّ الأمل هو أنه إذا نجحت الديموقراطية في نهاية المطاف في البلدان التي قاومتها سابقًا، فسوف يصبح السلام الدائم مُمكِنًا.
ويرى آخرون أنَّ سببَ الحرب هو هيمنة الرجال على الديبلوماسية الدولية: في حين تُشكّلُ الحرب والعنف تهديدات لجميع البشر في النظام الدولي، فإنهما يرجعان على وجه التحديد إلى أنَّ الرجال احتفظوا لفترة طويلة بنفوذٍ كبير في الأنظمة السياسية المحلية.
تتناول كل هذه التفسيرات الآليات التي يُمكِنُ أن تؤدّي إلى الحرب في بعض الحالات، لكن ليس في حالاتٍ أخرى. ومن المؤسف أنه ليس من الواضح في ظلِّ أيِّ ظروفٍ مُحَدّدة قد تؤدّي هذه العوامل ــسواء كانت الطبيعة البشرية، أو الفوضى، أو الافتقار إلى الديموقراطية، أو الذكورة السامةــ إلى اندلاع حرب، وما إذا كانت تعمل بمفردها أو مجتمعة. وهناك حاجة إلى المزيد من العمل لكشف وتوقُّع بداية العنف في حالاتٍ مُحَدَّدة.
الواقع إنَّ ما هو واضحٌ هو أنَّ استخدامَ العنف يبدو مُرتَبطًا بشكلٍ أساس بحقيقةٍ صعبة: البشر يعيشون على كوكبٍ محدود في الأرض والفضاء، وتاريخيًا كانت الوسيلة الأكثر فعالية للسيطرة على هذا الفضاء أو إبعاد الآخرين عنه هي التهديد، وإذا لزم الأمر، استخدام العنف. وهذا لا يعني أنَّ كلَّ الحروب ترجعُ إلى الحاجة إلى الاحتفاظ بالأرض والسيطرة عليها. لكنَّ التركيزَ على المنافسة على الأرض ــوعلى المعاني المتنافسة المُرتبطة بهذه الأرض ــ يمكن أن يقطع شوطًا طويلًا نحو تفسير استمرار الحرب.
الحربُ مستمرة لأنَّ الأرضَ محدودة. والواقع أنَّ مركزية الأرض في استمرار الصراع تبدو واضحة في الصراعات الجارية في إثيوبيا. فمن النزاع الحدودي مع إريتريا إلى الصراعات الداخلية المختلفة في البلاد، تُركّزُ جميعها على الحاجة إلى السيطرة على الأرض. وينطبق الأمر نفسه على حرب إسرائيل مع سوريا ولبنان وفلسطين.
وتؤكد هشاشة اتفاق وقف إطلاق النار الأخير في إثيوبيا على المخاوف بشأن وقف إطلاق النار الهشّ على نحوٍ مماثل في لبنان، فضلًا عن عدم القدرة على التوصل إلى وقفٍ لإطلاق النار في الحروب في أوكرانيا وغزة، وخطر العودة إلى الحرب الأهلية في سوريا. ومع اقتراب العام 2024 من نهايته، فإنَّ مشكلة استمرار الحرب ستظلُّ قائمة للأسف.
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على: @GabyTabarani