جنوب لبنان لن تمحوه صواريخُ العدوّ

مدخل النبطية العامر بالحياة

هنري زغيب*

“الجنوبُ؟ اشمخ به رأْسًا، رضًا… كان لبنانُ إِذا كان الجنوب” (سعيد عقل)

بهذه الثقة أَعلن سعيد عقل ثُبُوتَ جنوب لبنان في تراثه وتاريخه وأَهله وأَرضه، فلا يمحو نبضَه قصفُ عدوٍّ متوحشٍ أَطلق عليه حقدَه التاريخي في الأَشهُر الأَخيرة، فأَصاب أَهلًا هجَّرَهُم، وبيوتًا هدَّمها، وأَرضًا استباحَها، وتُربةً بات معظمُها غيرَ زراعي بسبب الفوسفور المسموم في صدر التراب.

طبعًا لم يمحُ قصفُ الجنوب حيًّا مشعًّا.. فكلما أَضأْنا على واحةٍ من لبنان، كأَننا أَضأْنا على كلّ لبنان لكلّ لبنان من أَجل كلّ لبنان.

أَتوقف هنا في مدينةٍ جنوبية دمَّر العدوُّ سوقَها التاريخي وبعض بيوتها، لكنه لم يدمِّر نخْوة أَبنائها ولا عزْمهم على إعادتها بهاءً وإِرثًا عميقًا في التاريخ، فلا تَبقى على دمار.

قلعة الشقيف التاريخية: فخر النبطية

صفحة من النبطية

إِنها مدينة النبطية الغالية. ومن تلك النخوة الجبارة فيها، ما نشَرهُ ابنُها الوفي المؤَهّل أَوَّل في جيش لبنان علي حسين مزرعاني فأَصدر عنها ثلاثةَ كُتُب وثائقية نُصوصًا وصُوَرًا: “النبطية في الذاكرة”، و”قضاء النبطية في القرن العشرين”، وأَتوقف هنا عند الثالث منها: “النبطية: ذاكرة المكان والعمران” (192 صفحة حجمًا موسوعيًا كبيرًا غنيًّا بالصوَر والنصوص) حرصًا منه على إِبقاء مدينته في البال من أَجيال الأَمس إِلى أَجيال اليوم وكلِّ يوم، وهو عمل لو زاوله كلُّ مؤَرّخ أَو حافظُ تراثٍ لـمدينته أَو بلدته أَو ضيعته، لَأَزهر لبنان مُشعًّا متوهِّجًا دومًا في ذاكرة المستقبل.

هكذا حافظ علي حسين مزرعاني على ذاكرة مدينته بكاميراه التي قطف منها لكتابه مجموعةً نوستالجية من صُوَر الماضي، افتتحها بنبْضٍ فوتوغرافي من ستة فُصولٍ، يستهلُّها الأَوّل: “ذاكرة المكان” وهو بانوراما واسعة للنبطية بدءًا من 1890، بيوتًا وأَحياءً ومناسباتٍ ومآتِـمَ واحتفالات وعاشُوراء وسوق الاثنين وساحةً عامة وشارعًا رئيسًا وأَول سيارة فيها سنة 1948 وفنادقَ وتفاصيلَ بيوتٍ وقناطرَ وشبابيكَ وُصولًا إلى النبطية اليوم ملوَّنة العمران والديموغرافيا.

حيٌّ آمنٌ من النبطية الآمنة

أَحياء وناس ونهضة

في الفصول التالية ملامح من الأَحياء: بدءًا من “حي السراي” ومنازله وقناطره ومدارسه وجوامعه وأَعلامه أَدباءَ ولغويين، وأَدراجًا وزواريبَ وعِلّيّاتٍ وقرميدَ بيوتٍ مهجورة، مرورًا بــ”حيّ الميدان” وَدُوره وقُصُوره ومندلوناته وصُوَر أَعلامه وعائلاتهم، وصولًا إِلى “حيّ البيّاض” وصُوَرٍ عن معالمه العتيقة المهجورة وجامعه الجديد وطريقه قديمًا وحديثًا، ونادِيه الحسينيّ وصُوَرٍ خاصة عن ابن هذا الحي المخترع حسن كامل الصباح بمدخل بيته وبقاياه بعد هدمه، وجثمانه لدى وصوله من الولايات المتحدة سنة 1935 وضريحه وتمثاله ووثيقةٍ باسمه هي بطاقتُه طالبًا طيارًا سنة 1934.

بعد صُوَر جوية لـمدينة النبطية بين 1956 و1974 و2005 تُظهر تطَوُّرَ المدينة ونـُمُوَّها الجغرافي، كان ختامُ الأَحياء مع “حارة المسيحيين” بكنائسها وبيوتها وقناطرها وصوَرٍ من سكان حيٍّ شهِدَ نزوح عائلات مسيحية إِليه إِثْر حوادث 1860.

وكانت للمؤَلف جولةٌ بالكاميرا على بلداتٍ أُخرى من قضاء النبطية: الكفور وكفررمان وقلعة الشقيف والنبطية الفوقا وحاروف وزفتا وزبدين وأَنصار وجبشيت والدوير وجباع والقصيبة وسواها.

القصف المجرم الذي اغتال رئيس بلدية النبطية

ثلاث محاولات

إِنها جولةٌ للعين صُوَرًا وللذاكرة نُصُوصًا، أَوجزَها المؤَلف معتبرًا كتابه ذا ثلاث محاولات:

“محاولةٌ أُولى بالصورة للحفاظ على بقايا تراثٍ معماريٍّ زال أَو هو على طريق الزوال.

محاولةٌ ثانية لترميم منازلَ على طريق الاندثار بإِعادة تثبيت صُوَرها وإِعادة التذكير بغائبين عن طريق نشْر صورهم.

ومحاولةٌ ثالثة لحفظ الهوية كي نشاهد أَين كنا وكيف كانت منازلُنا عامرةً بالإِلفة عابقةً بالياسمين مزدانةً بصور الجمال، قبل أَن تجرفنا مدنيّة العصر فتُزيلَ تراثنا وذاكرتنا معها”.

وإِزاء الدمار الذي لحقَ بالنبطية الغالية تحت صواريخ العدوِّ الإسرائيلي، فدمَّرَت سوقها (“سوق الإِثنين”) العزيز على أَبنائها وأَبناء المنطقة، وبعض أَحيائها النابضة بالحياة فحوَّلتْها أَطلالًا جعلت الذاكرة تنسى معالِمها، يبقى تثبيت الذاكرة بنشْر تراث المدن والقرى والأحياء كي يظل مرآةً للجيل الجديد فيعيد بناءَها كما كانت بل أَجمل.

المرآة التي لا تنكسر

من ذاك النشْر الضروري، نموذجًا، كتاب علي حسين مزاعاني “النبطية: ذاكرة المكان والعمران” وهو باقٍ مرآةً لوفاءِ أَبناء النبطية في اذّكار ماضي بلدتَهُم وحفْر ذِكْرها في الآتي من الأَيام.

إِنها مرآةٌ حَبَّذا لو تَتَعَمَّمُ مرايا شبيهةً في كلِّ لبنان، قرىً ودساكرَ وبلداتٍ ومُدنًا بوهْج أَعلامها وأَعمالها ومعالـمِها، حتى يبقى لبنان ذخرًا لأَبنائه، يعودون إِليه عند جُوعهم إِلى الجذور، كما يعودُ الجائع إِلى مِعْجَن الخبز، كلَّما جاع إِلى رغيفٍ يتناولُه فيُمسك به بَرَكَةَ الأَيدي التي هلَّت العجين، والأَيدي التي زرعَت القمح، والأَيدي التي حصَدَت في موسم الجنى، حتى تظلَّ مواسمُ الخير في لبنانَ عامرةً بالحَصاد، فلا يكون جوعٌ إِلى الإِرث، ولا عطَشٌ إِلى تراث الينابيع.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى