من دولة لبنان الكبير إِلى دولة لبنان اللبناني
هنري زغيب*
ثلاثةُ مشاهد في لبنان حاليًّا:
المشهد الأَول: كان ذلك قبل مئةٍ وأَربع. يومَها وقَف الجنرال هنري غورو على مدخل قصر الصنوبر صبيحةَ الأَول من أَيلول/سبتمبر 1920 يعلن ولادة “دولة لبنان الكبير”، واقفًا بين البطريرك الياس الحويك ومفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ مصطفى نجا. وتَـمَّ ذلك بعد رفْض انضمامِ جبل لبنان إِلى سوريا، ورفْض انضمام الليطاني إِلى فَلسطين، وبعد نجاح لبنان في ترسيم كيانه الحالي بمساعي البطريرك الياس الحويك، وصدورِ قرارات الجنرال غورو بتقسيماتٍ إِدارية قضَت باسترجاع الأَربعةِ الأَقضيةِ الْكانت السَلطنة العثمانية فصَلَتْها عن جبل لبنان. يومها، في باحة قصر الصنوبر، عزفَتْ فرقة موسيقى “الضابطية اللبنانية” النشيد الوطنيَّ الأَول. ويومها انتصر لبنانُ اللبناني على محاولات الضم والالتحاق.
المشهد الثاني: كان ذلك قبل إِحدى وثمانين. في 22 تشرين الثاني/نوفمبر 1943 خرجَ من قلعة راشيَّا رئيسُ الجمهورية ورئيسُ الحكومة ووزراء معهم، ولاقاهم جمْع من اللبنانيين شعروا أَن دولتهم خرجَتْ من ربقة الانتداب الفرنسي ورفضَت تعليق المفوض السامي دستورَ لبنان. يومها تم إِعلان 22 تشرين الثاني/نوفمبر اليومَ الوطني اللبناني باستقلال لبنان. ويومها انتصر لبنانُ اللبناني مجدَّدًا على محاولات الضم والالتحاق.
المشهد الثالث: كان ذلك قبل أَيام، حين احتفل لبنانُ الشعبي والإِعلامي بخروج لبنانيين من الاعتقال السوري، وانزياح ما كان من ضغْطٍ سياسيٍّ خارجيٍّ موزَّعٍ على فريقٍ من اللبنانيين ارتبطَ بالنظام الذي انهار فانهار معه أُولئك الْكانوا به ملتزمين، وإِليه مستزلمين، ومنه منتفعين. يومها انكشفَت رؤُوس وطأَطأَت رؤُوس وخجلَت رؤُوس وانفضحَت رؤُوس وندمَت رؤُوس…، وارتفعَت رؤُوسُ من كانوا يؤْمنون وما زالوا يؤْمنون وسوف دومًا يؤْمنون بلبنان اللبناني غيرِ المنتمي إِلَّا لكيانه، والرافضِ كلَّ محاولة للضم والالتحاقِ والانتماءِ لغير كيانه وأَرضه وشعبه وجيشه، والمنتمي إِلى دولته النقية من كل ولاء غيرِ لبناني.
ها نحن إِذًا، هذا الصباح، أَمام ثلاثة مشاهد من 1920 إِلى 1943 إِلى 2024، عَبَر بعضُ لبنان فيها من انتماءٍ إِلى الخارج، وتابَ فعانقَ الداخلَ بحنان الرجوع إِلى الحضن الأَول، الحضن الواحد، الحضن الوحيد، لينتصرَ كما دائمًا في جميعِنا لبنانُ اللبناني الهوية دون أَيِّ هويةٍ أُخرى أَيًّا تكن جارةً أَو قريبةً أَو بعيدة، وهذه هي الهويةُ اللبنانية التي يحترمها العالم لأَنها قويةٌ في ذاتها وقويةٌ باحترامها هويةَ الآخرين دون الانتماء لهم والاستسلام إِليهم والاستزلام أَمامهم.
هي هذه هوية لبنان ولا سواها: من أَجلها سقط لنا شهداء، وغاب آباء وأَجداد عمَّروا لنا وطنًا سلَّمونا إِياه قويًّا نقيًّا فكان منا يوضاسيون خانوه بانتماءاتٍ غريبة، ثم انكشفَت خطايا انتماءَاتهم فتابوا. ومَن لا يزال يكابر ويستعدي ويتلبَّس الإِنكار، سيبقى خارج الحَرَم مشرَّدًا على أَرصفة الآخَرين الذين لا يحترمون مَن يتخلَّى عن هويته وشعبه ويستسلم ويستزلم.
بعد هذه المشاهد الثلاثة، من 1920 إِلى 1943 إِلى 2024، عسى أَن يتَّعظ ضعيفو الإِيمان وعاقُّو الانتماء، فيفْهموا أَنَّ المسار الوطني الحقيقي هو الذي صاغَه أَجدادنا سنة 1920 لنقطفَه اليوم هويةً لا إِلى خيانة، فنكونَ فعلًا وقولًا وممارسةً انتقلْنا بعد 104 سنوات من دولة لبنان الكبير إِلى دولة لبنان اللبناني.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib