هل “هيئة تحرير الشام” هي حقًا “طالبان سوريا”؟

ما قد تُعلِّمه أفغانستان لسوريا هو أنَّ العاملَ الأعظم الذي يُشكّلُ الحركات الإسلامية المسلّحة التي اكتسبت نفوذًا أخيرًا ليس الضغوط الخارجية، بل إنَّ العاملَ الأعظم هو السياسة الداخلية.

الشعب السوري يحتفل بسقوط نظام بشار الأسد: هل سيندم؟

سليمان حَاكِمي*

تبدو أوجُهَ التشابُه بين الأحداث الأخيرة في سوريا وتلك التي وقعت في آب (أغسطس) 2021 في أفغانستان كثيرة، إن لم تكن مُتطابقة. فقد أطاحت حركةُ تمرُّدٍ إسلامية مُتَطرّفة مُدرَجة من قبل العديد من البلدان كجماعةٍ إرهابية، والتي سيطرت على جُزءٍ من وطنها لسنوات، حكومةً وطنية في حربٍ خاطفة مفاجئة-سُريالية، حتى بالنسبة إلى أولئك الذين قادوا الهجوم. وتنتشرُ الصور على وسائل التواصل الاجتماعي التي تُظهر رجالًا مُسلّحين مع تعبيراتٍ صارمة يقفون في غرف الدولة الشاغرة التي كان يحتلها كبار المسؤولين من النظام القديم، الذين غادروا على عجل. ويراقب العالم، مُتسائلًا عمّا قد يعنيه تسليم الوزارات والتلفزيون الحكومي والترسانات وشبكات الكهرباء للمُتشَدِّدين.

لقد حدث هذا بهذه الطريقة مرّتين فقط، وبالتالي فإنَّ الشعورَ بالأخوّة بين طالبان في أفغانستان و”هيئة تحرير الشام” في سوريا أمرٌ مفهوم. وكانت أفغانستان أول دولة تُهنّئ الشعبَ السوري بسقوط بشار الأسد في الثامن من كانون الأول (ديسمبر).

في الواقع، هنأ البيان الصادر عن وزارة خارجية طالبان هنّأَ أولًا “هيئة تحرير الشام”ً، ثم الشعب السوري ــ وكأنها تريد بث الحياة في الأسئلة التي طرحها كثيرون عندما سقط نظام بشار الأسد: هل “هيئة تحرير الشام” هي “طالبان سوريا”؟ هل هذه أفغانستان مرة أخرى؟ وكما كتب غرايم سميث، كبير المحللين في مجموعة الأزمات الدولية: “لا توجد قواعد للمتمرّدين الإسلاميين الذين يواجهون تحديات إدارة دولة. لكن هناك سابقة في أفغانستان”.

لكن من الواجب أن نقولَ مُقدَّمًا إنَّ الظروفَ مختلفة تمام الاختلاف، على الرُغمِ من أوجه التشابه. لهذا السبب تبدو أجزاءٌ أخرى من هاتين القصَّتين مختلفة تمامًا. فبعد أيامٍ على دخول طالبان إلى كابول، كانت الشوارع مهجورة، باستثناءِ المطار، حيث تجمّعَ عشرات الآلاف من الأفغان المذعورين في محاولٍة لشقِّ طريقهم إلى رحلاتِ الإجلاء. وفي دمشق، امتلأت الشوارع بالسوريين احتفالًا.

هل يرجعُ هذا إلى أنَّ غالبية السوريين تطمَحُ إلى حُكم ديني إسلامي، في حين لا يطمح أغلب الأفغان إلى حُكمٍ ديني إسلامي؟ كلا على الإطلاق. فأفغانستان بلدٌ أكثر تحفُّظًا من الناحية الدينية. وعلى النقيضِ من ذلك، تتعمّقُ العلمانية في معظم أنحاء سوريا، بما في ذلك في أغلب المدن الكبرى.

والتفسيرُ وراء ردودِ الفعل المختلفة واضحٌ ومباشر: في حين يكره أغلب الأفغان والسوريين حكوماتهم السابقة، فإنَّ كراهية بشار الأسد بين السوريين أعظم كثيرًا من كراهية الأفغان لأشرف غني، الرئيس المخلوع لجمهورية أفغانستان ــ وهذا مُبَرَّر.

وهناك أيضًا سردٌ تبلورَ بسرعة كبيرة مفاده أنَّ “هيئة تحرير الشام” تُواجهُ تنوُّعَ سوريا الديني والسياسي الهائل، وأنَّ زعيمها أحمد الشرع، المعروف سابقًا باسم أبو محمد الجولاني، يُدركُ أنَّ منظّمته لا تستطيع إعادة تشكيل البلاد على صورتها. على مدى السنوات العديدة الماضية التي حكمت فيها “هيئة تحرير الشام” محافظة إدلب السورية، أشرفت على إعادة فتح كنيسة، وقمعت الجماعات الإرهابية التي تطمح إلى الجهاد العالمي، وسمحت للفتيات بالالتحاق بالمدارس.

وعندما تقدّمَ المسلحون من حماة إلى حمص، تركوا مدينة السلمية ذات الغالبية الإسماعيلية من دون أن يمسّوها بسوء، بزَعمِ إظهارِ الاحترام لهذه الأقلية الدينية. وعندما دخلوا حلب، طمأنوا الكهنة المحليين بأنهم لا ينوون اضطهاد المسيحيين. وكانت هذه الوقائع  الإيجابية التي حدثت على الطريق إلى دمشق لافتةً لبعض المعلقين. لذا رأينا أن عناوين وسائل الإعلام الغربية استخدمت كلمات “البراغماتي” و”المتسامح” و”التعدّدي” بعد اسم الجولاني.

من السابق لأوانه القول ما إذا كانت هذه الإعادة لتأهيل “هيئة تحرير الشام” تستحق ذلك. لكن بصفتي شخصًا تابع عن كثب وكتب عن استيلاء طالبان على أفغانستان، وزار أفغانستان التي تحكمها طالبان مرات عدة منذ ذلك الحين، لا يسعني إلّا أن أجدها لافتة. وذلك لأنَّ طالبان ألقت خطابًا مُماثلًا في حملتها قبل عودتها الثانية والذي قال: تحترم طالبان (2.0) الأقلّيات في أفغانستان، وترفض الجهاد العالمي، بل وتقبل حتى تعليم الفتيات “بما يتماشى مع المبادئ الإسلامية”. وقد سارع بعض الديبلوماسيين الأميركيين إلى الترويج لهذا الخط أيضًا، على أمل أن يجعل انسحاب أميركا من أفغانستان أكثر قبولًا. لكن في ذلك الوقت، بدا أنَّ قِلّةً قليلة من خارج أفغانستان، وحتى داخل أفغانستان، صدّقوا هذا الرأي.

والتفسير الساخر ــوالذي أعتقد أنه صحيحٌ جُزئيًاــ هو أنَّ هذا كان لأنَّ طالبان كانت تقاتل قوات غربية، وليس واحدة من أكثر الدكتاتوريات إثارةً للاشمئزاز في العالم. وبطبيعة الحال، إذا تحدّثتَ إلى مقاتلي طالبان والأفغان المُتعاطفين معهم، فسوف تسمع العديد من القصص الحيّة والحقيقية عن حالاتِ اختفاءٍ وتعذيبٍ وغاراتٍ ليلية وهجماتٍ بطائراتٍ مُسَيَّرة وسجونٍ سرّية تديرها الجمهورية الأفغانية وداعموها الغربيون. وتبدو صورةٌ لممرِّ مُغطّى بالصدأ في سجن صيدنايا المُحرَّر الآن في دمشق مشابهةً بشكلٍ مخيف لأحد سجون قاعدة “باغرام” العسكرية سيئة السمعة بالقرب من كابول.

إنَّ السنوات الثلاث الماضية من حُكم طالبان تُظهِرُ أنه ليس من السهل على التمرُّد الإسلامي أن يفي بكل وعوده. هناك عناصر داخل طالبان تُريدُ رؤية الفتيات في المدارس، ولكن من الواضح أنَّ العناصرَ الأكثر قوةً تجدُ الفكرة صعبة للغاية. لم تقم طالبان، كسياسة، باضطهادِ أيِّ أقلياتٍ دينية -فهي تَبذُلُ جهدًا جادًا لحمايتها من مجموعاتٍ مثل “داعش”- ولكنها لم تحتضنها أيضًا كأصحاب مصلحة متساوين في الحكومة. بعد كل شيء، يجب أن يكونَ هناك على الأقل بعضٌ من طالبان 1.0 في طالبان 2.0 إذا كانت لا تزال طالبان.

إنَّ “هيئة تحرير الشام” التي استولت على دمشق منذ أكثر من أسبوع هي النسخة 4.0، التي تقول إنها تريد حكومة وحدة شاملة في سوريا. لكن يجدر بنا أن نتذكّرَ أنَّ النسخة التجريبية نشأت من مجموعةٍ أصبحت في نهاية المطاف “داعش”؛ بدأ الشرع كملازمٍ لزعيم “داعش” أبو بكر البغدادي. كانت “هيئة تحرير الشام” 2.0 تابعة لتنظيم “القاعدة”، وارتفعت “هيئة تحرير الشام” 3.0 لتصبح الفصيل الإسلامي الأعلى في إدلب. هل تكفي ثلاثُ تكرارات للتطوُّرِ لطمأنةِ السوريين بأنَّ “هيئة تحرير الشام” تجاوزت جذورها تمامًا؟

يُمكنُ للحياة في إدلب تحت حُكمِ “هيئة تحرير الشام” أن تُوفّرَ بعض الرؤى. طوال فترة حكمها، وحتى بعد “إعادة تسميتها”، أغلقت “هيئة تحرير الشام” أماكن الترفيه، وفرضت قواعد صارمة تحكم الحياة الاجتماعية، وأعدمت أحيانًا أشخاصًا أُدينوا بالردّة. أخبرني أحد الأشخاص الذين عملوا في النظام المدرسي في المحافظة أنَّ سلطات “هيئة تحرير الشام” كانت تُفضّلُ مَنعَ الفتيات المراهقات من دخول الفصول الدراسية، لكنها رضخت بعد أن هددت الدول المانحة الغربية بحجب رواتب المعلمين إذا فعلت ذلك.

لكن هناك أدلّة تشيرُ إلى أنَّ “هيئة تحرير الشام” أو الجماعات المُرتَبطة بها نفّذت عمليات إعدام في الأيام القليلة الماضية، ولم يلتزم بعضُ المُتشدّدين فيها بالتعليمات بترك الناس والمباني في أمانٍ وسلام.

هذا لا يعني أنَّ “هيئة تحرير الشام” ستكونُ قادرةً على تكرار نمط الحياة الذي اتبعته إدلب في مختلف أنحاء سوريا. فقد كانت حركة طالبان أكثر استعدادًا للحُكم الاستبدادي الديني المتطرّف من “هيئة تحرير الشام”. وكان كثيرون في العاصمة الأفغانية يخشون قوة طالبان وشدّتها وبطشها، ولكن ليس تديُّنها. كانت المحافظة المتجذّرة في الثقافة المحلية هي التي هيَّأت الأفغان في المناطق الحضرية للمفاجأة السارة عندما وجدوا أنَّ طالبان 2.0 لا تضرُب النساء في الشوارع بالعصا أو تقطع أيدي كلّ نشّالٍ فقير. كما إنها ــللأسف، في رأيي ــ تمنح الرجال الأفغان قدرًا أعظم من الصبر على أعذار طالبان لقيودها على النساء، حتى وإن وجدوها محبطة للغاية.

علاوة على ذلك، كانت الخدمة المدنية الأفغانية والمجتمع المدني، اللذان كانا ليُشكّلا ثقلًا موازنًا لدوافع طالبان، مُنهارَين تمامًا بحلول الوقت الذي تولّى فيه المسلحون السلطة، ويرجعُ هذا جُزئيًا إلى إجلاء أكثر الأشخاص نفوذًا من البلاد من قبل القوى الأجنبية. وفي دمشق، حيث، حتى الآن، لا يُبدي أحدٌ أيَّ اهتمامٍ بالنساء غير المُحجّبات أو الحياة الليلية المليئة بالكحول، فإنَّ مستوى القبول المجتمعي ل”هيئة تحرير الشام” سيكون أعلى كثيرًا. ولا يوجد أيُّ جسرٍ جوي لإخراج المجتمع المدني السوري من البلاد.

لكن ما قد تُعلِّمه أفغانستان لسوريا هو أنَّ العاملَ الأعظم الذي يُشكلُ الحركات الإسلامية المسلحة التي اكتسبت نفوذًا أخيرًا ليس الضغوط الخارجية ــ سواء من قِبَل الشعوب التي تحكمها، أو القوى الأجنبية، أو أنظمة العقوبات الدولية، بل إنَّ العاملَ الأعظم هو السياسة الداخلية. ويواجه المسلحون الإصلاحيون معركة شاقة داخليًا، حيث ليس من السهل كبح جماح الجنود المشاة الذين يخشون التضحية بمبادئهم.

  • سليمان حاكمي هو مُحلل سياسي ومحرر قسم الرأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى