“كلامٌ إِنشائي” لا “حَكي شعر”

هنري زغيب*

لم يَبْقَ إِلَّا أَنا وجارُنا الدكَّنجي لم نَظهَر بَعدُ على شاشات التلفزيون بصفة “خبير” و”مُحلِّل سياسي”. ومع تقديريَ كثيرين ممَّن هم جديرون صحافيًّا وعلْميًّا وأَكاديميًّا وسياسيًّا بهاتَين الصفتَين: الخبرة والتحليل، لم يَزِدْ مجهولاتيَ السياسيةَ كثيرون آخَرون مِنَ الْكانوا يتناوَبون متنقِّلين من شاشةٍ إِلى أُخرى يَهدُرون وقتَ المشاهدين تنظيرًا ولَغْوًا وسفسطةً وهذيانًا، إِذ نفَّضوا عنهم “النفتالين” ليعودوا إِلى الظهور بعدما تكدَّسَت فوقهم دسْتات الغبار وطبَقات النسيان.

ولكان كلامُهم لا يَهُّمني ولا أَصرِف عليهم نُتَفًا من وقتي، لولا أَنهم، وبينهم عدد من “بيت بو سياسة”، يروحون يزدرون بنَصٍّ أَو تصريح أَو موقف فيقولون عنه: “هَيْدا كلام شعر”، ويقصِدون أَنه كلام لا معنى له ولا فاعلية ولا قيمة.

ولكان هذا الكلام ذا قيمة جدَلية، ولو دُنيا، في ما يخصُّ مستوى الشعر بين نظْم ثرثار وإِبداع هزار. أَما أَن يكونَ الناطقون به ذوي مستوًى تافهٍ من الجهْل والأُميَّة والعقْم في شأْن الشعر، وحتى في الشأْن السياسي الذي “يرتكبُونه” زُورًا، فلْيعرِفوا ولْيفهَموا ولْيدرِكوا أَنهم أَحقر من أَن ينالَهم هجاءُ شاعر، أَو ازدراءُ شاعر، ولا يستحقُّون حتى لعنةَ شاعر.

“هَيْدا كلام شعر” يا الـهؤُلاء؟؟ وكلامُكم؟ ماذا عن كلامكم سوى أَنه من سقْط الكلام ورخيص الكلام وتافه الكلام؟

“هَيْدا كلام شعر”؟ الشعر نصَّع لبنان إِلى أَعلى مراتب الجمال، في قصائد شعراء يكبُرُ بإِبداعهم لبنان. وأَنتم؟ ماذا في كلامكم أَنتم غيرُ ما يخجَل به لبنان لأَنكم جاهُلُون عظمةَ لبنان الإِبداع والتاريخ والحضارة؟

“هَيْدا كلام شعر”؟ الشعر كرَّس لبنان، خلَّد لبنان، نشَر لبنان في العالم، فماذا فعلتُم أَنتم غيرَ تقزيم لبنان على حجم مصالحكم وشعبيَّتكم ودوائركم الانتخابية الصغيرة؟

“هَيْدا كلام شعر”؟ وهل تستحقُّون أَنتم أَن تكونوا زرًّا في قميص شاعر؟ (أَقول “زرًّا في قميص” كي لا أَنحدر إِلى أَقدامهم فأَصف ما فيها بما يأْبى قلمي أَن يسمِّيه).

“هَيْدا كلام شعر”؟ وما الذي سيبقى من معظمِكُم وكلامِ معظمِكُم حين ستَتْبَع اسمَكم كلمةُ “السابق” (الرئيس السابق، الوزير السابق، النائب السابق، المدير السابق، المسؤُول السابق، …)، ولكنْ لن تسمَعوا أَبدًا بعبارة “الشاعر السابق”، لأَن الشاعرَ خالدٌ وأَنتم زائلون ذاهبون إِلى النسيان خلف لقب “السابق”!

تريدون النَيل مما يقال حين لا ترَونه “على خاطركم”؟ (من غير شر يجي عَ خاطركم الأَشوس)؟ عال. قولوا: “هيدا كلام إِنشائي”، لأَن الإِنشاء يحتمل الغَثَّ والسمين، الجيِّدَ والثرثار، التافه والقيِّم… أَما أَن تقصِدوا تلك الصفات التافهة الساقطة فترمُوها  بعبارة “هَيْدا كلام شعر”، فهذا شرف لا تستحقُّونه ولو عشتُم عشرةَ أَعمارٍ متتالية.

الشعر شرفٌ لن تدخُلوا جنَّتَه. فظلُّوا على مستوى الإِنشاء الذي قد يكون فيه، مضمونًا وشكلًا، هبوطٌ إِلى مستواكم، وانعتُوا مقصِدكم بــ”الكلام الإِنشائي”، واتركوا الشعر للشعراء الذين ينتظرهم الخلود.

من مصائب لبنان غيابُ المسؤُولية لدى بعض مسؤْوليه، فيخلُطون في كلامهم أُمورًا يتواقَحُون بنعتِها: “هَيْدا كلام شعر”. لذا قلتُ في بداية حديثي أَنْ لم يبْقَ إِلَّا أَنا وجارُنا الدكَّنجي لم نَظهر بعدُ على شاشات التلفزيون بصفة “خبير” و”محلِّل سياسي”. وهذا ما يحمعنا معًا. فحتى جارُنا الدكَّنْجي لا يخلْط في كلامه بين القمح والزُؤَان، ولا يخطئُ في نعته بين كمشة الشوفان وحفنة الشعير.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى