لبنان يبقى … وتَسقُطُ السَردِيّاتُ المُنافِية

مي الريحاني*

من عادتي أن أكتُبَ عن مبادئ السياسة، عن رؤيةٍ سياسيّةٍ تُصبحُ البوصلة في السياسة، عن دورِ القيادة المُبادِرة والفعّالة في السياسة، لا عن الآنِيّات في السياسة. فلبنان الذي أحبّهُ -بل أعشقه- كان قضيّتي الأولى في حياتي، حتى في المهجر. وتَرَشُّحي لرئاسة الجمهورية اللبنانية كانَ لأُوَظِّفَ خبرتي الطويلة في العلاقات الدولية والعمل المؤسّساتي، وأجعلها لنهضة لبنان وخدمة أهله.

لكنَّ الجرحَ النازف في لبنان، وأنا أستَشعِرُ ألمه ووجعه صباح مساء، يجعلني أعودُ إلى كتابتي عن الآنيّات، لا لصالح أحد بل لصالح لبنان وشعبه الطيِّب والخلوق والخلّاق، وأُشاركُ أهلَ وطني وكلَّ الغيارى على مصيرِ لبنان تطلّعهم إلى شروطِ حياةٍ كريمة، واستعادة لبنان الذي نعرفه وعايشناه، مُتَّعِظين من الحرب الأخيرة التي فتحَت لإسرائيل ذريعةَ مُمارستها تدمير لبنان منهجيًّا، وفرضَ عقابٍ جماعي على جميع اللبنانيين لا على طائفةٍ مُعيَّنة. فالحربُ الأخيرة في لبنان (هل هي حقًا “الأخيرة”؟) خَرَجَت عن سياقها التاريخي والطبيعي لتكون حربَ الآخرين على أرضه، لأنها لا تعني اللبنانيين ولا يتحمّلون عِبئها، وسبَّبَت للبنان الدمار والقتل والتشريد. وهي حربٌ كشفت تهافُتَ سردية “حزب الله” في مقولة “توازُن الرعب” أو “إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت”. وانهارت مقولتا “الحماية والأمن” اللتان كان الحزب يدّعي تأمينهما لبيئته وطائفته، وانهارت قدرته الردعية التي تَمنعُ العدو من العبث بالحجر والفتك بالبشر، فتبيَّنَ أنها سردياتٌ وَهميّةٌ مُضَلِّلة، وحبكاتٌ إعلامية وصياغات تنظيرية لا تمسُّ الواقع، بعدما أظهرت الحربُ التفوُّقَ العسكري والفارقَ التقني الهائل بين قدرات إسرائيل وآلة “حزب الله” العسكرية، إضافةً إلى ذلك الاختراق الاستخباراتي والأمني، وعنصر المفاجأة والمباغتة، وسيطرة إسرائيل الكاملة على الأجواء اللبنانية، وقدرتها على الوصول إلى أهدافها بدقّة وسع مساحة لبنان.

فاضحًا كانَ غيابُ الدولة على جميع المستويات، بخاصة في غيابها عن قرار الحرب والسلم. وتبيّنَ أنَّ “حزب الله” هو الحاكمُ الفعلي الذي يُديرُ المعركة، ويُملي على الحكومة الموقف الرسمي، ويفرضُ السياسات المُتَّبعة. ومع رحيل السيد حسن نصر الله، عَمَدَ النظامُ الإيراني إلى سدِّ الفراغ الذي أحدثه، فزارَ مسؤولوه لبنان لإملاءِ قرار لبنان الرسمي حتى باتَ النظام الإيراني هو المرجعية الفعلية لقرارِ الحرب والسلم في لبنان، وللاحتفاظ بلبنان مدًى حيويًّ لنفوذه وتمدُّده وتوسعه في المنطقة. ويقلقُ أيضًا أن اكثرية القوى السيادية، رُغمَ معارضتها هيمنة “حزب الله”، ما زالت تتبع سياسة التكيُّف مع هذا السلاح والتعامل معه أمرًا واقعًا لا يمكن تغييره، وهي سياسة الاختلاف معه في التفاصيل وتجنُّب مواجهته في العناوين الاستراتيجية والسيادية. وهذا السلوك شرَّع ل”حزب الله” تماديه في توريط لبنان بمواجهاتٍ إقليمية ودولية ومحلّية تُناقض المصلحة اللبنانية، وتُرَهِّل مؤسّساته وتُقوِّضُ اقتصاده وتُحدِثُ انشقاقاتٍ عميقة داخل نسيجه المجتمعي.

ما جرى نقض ثلاثية “حزب الله”: “الجيش والشعب والمقاومة” إذ راح الحزب يتصدّى لمهامٍ إقليمية خارجة عن وظيفة المقاومة. علْمًا أنَّ تلك الثلاثية هي أصلًا مُزَيَّفة وتُناقِضُ مبادئ الدولة الحديثة ومفاهيم السيادة. فالديموقراطية هي حُكمُ الشعب من الشعب وللشعب. ما يعني أنَّ الشعبَ مصدرٌ حصريٌّ لكلِّ شرعيةٍ سياسية، ولا شرعية منفصلة عنها أو مستقلة عنها أو فوقها، فتكون الدولة -وهي إدارة المجتمع مصيرَه- هي حصريًّا الشرعية الوحيدة المُنبثقة من الشعب، وحدها تملك حق الإكراه المشروع: توفير الأمن الداخلي والخارجي، حصر السلاح بيدها، نزع الشرعية عن أيِّ سلاحٍ خارج سلطتها ونفوذها، لأنه يُقوّضُ سيادة الدولة. وهذا يدفعنا إلى العودة لطرحِ شرعية سلاح “حزب الله”، من حيث مناقضته أصل وجوده لسيادة الدولة، وفشل سلاحه في القيام بمهمة الحماية والأمن والرعاية، وتجاوزه حدود مهمته ودوره، وعجزه وعدم أهليته في الدفاع والردع. وهي عناصرٌ تؤكّد فقدان سلاح “حزب الله” أهليته وقدرته وصلاحيته، وصيرورته عبئًا على بيئته وعلى لبنان، ويمثّلُ وضعيةً مُناقضة لأبسط مبادئ السياسة وقيم الديموقراطية. وتصويب الأمور يكون بتفعيل الدعوة إلى السيادة الكاملة غير المنتقَصة للدولة، وأهمّها حصر السلاح الشرعي بها، ونفي شرعية أي سلاح خارجها، وأن تكون صاحبة القرار الحصري في الحرب والسلم، للحد من التدخّلات والإملاءات الخارجيتين.

وهذا يتحقّق بتوفُّر دينامية مُجتمعية وحراك سياسي في الداخل اللبناني، بدأنا نتلمَّسُ تناميهما وتراكمهما في المجتمع اللبناني بما ظهر من تملمُلٍ وتصريحاتٍ ضد الحرب التي تسبب بها “حزب الله”، والإجماع شبه الكامل على رَفضِ الاستمرار بالترتيب الأمني وفائق القوة التي يتميّز بها الحزب عن غيره. وهذا يشي بوجودِ حسٍّ وطنيٍّ جامعٍ بين اللبنانيين وتَوَفُّر إرادةٍ عامة في استعادة سيادة الدولة وتثبيت مرجعيتها الحصرية في كل ما يتعلّق بالشأن العام.

ورُغمَ الزخمِ الداخلي أثبتت التجربة أنَّ سيادةَ الدولة لا تُستعادُ إلّا برعايةٍ دولية عبر تطبيق القرارين 1701 و1559. الأوّلُ لصالح لبنان قبل صالح الكيان الصهيوني، كونه يُوفّرُ الشروطَ اللازِمة لحدودٍ آمنة ومُستقرّة تُتيحُ لأهالينا الطيبين في الجنوب أن يعيشوا بأمان ويمارسوا نشاطهم اليومي من دون قلق على المصير. والآخر (القرار 1559) هو الضمان الوحيد لعودة الحياة السياسية في لبنان على أرضيةٍ ديموقراطية وتنوُّعٍ وحيوية وتمثيل شفاف، ويُعيدُ للدولة هيبتها ويستمكل أركان سيادتها التي عمد “حزب الله” إلى انتزاعها منها، والتصرُّف بها بما يستجيب لمصلحة النفوذ الإيراني.

خطورةُ المشهد وعبثيته ليسا مدعاةً لليأس ولا يوجِبان نهاياتٍ مأساوية. صحيح أنْ آثارَ الحرب كانت مدمّرة وكارثية، لكنها تدفعنا إلى التفكير بمستقبل لبنان وفق ترتيبات جديدة ومختلفة، بمخاطبة الأمور بعناوينها الحقيقية لا المُلفَّقة أو المتوارية، وبعدم المساومة على مصير لبنان، أو المُقايضة على سيادة الدولة لأجل مكاسب جُزئية.  لا يمكن لهذه الدورة من الحروب العبثية أن تتكرّر، وأن نبقى تحت وصايات صريحة حينًا وضمنية حينًا آخر، ومن القبح الشديد أن نعودَ إلى وَضعٍ داخلي لم نجْنِ منه سوى الويلات والكوارث.

نتطلع في المستقبل لا إلى لبنانٍ آخر أو جديد بل إلى رفع الركام والقيود عن لبنان الحقيقي والفعلي الذي نعرفه وعشناه، ضاربًا في التاريخ، مُتجذّرًا في الذاكرة البعيدة، يُشكّلُ بمكوّناته المتنوِّعة لوحةَ وجودٍ إنساني نادر، ومزاجَ حرية، وعشقًا للحياة، وواحةَ خلقٍ وابتكار، وصلابةَ إرادةٍ ضد كل طامع أو محتل. إنه وطنٌ كابَدَ وطوى محنًا أشد، فقدَرُه البقاء والنهوض، أما السرديات المُنافيةُ حقيقتَه فقدرُها الزوال.

  • مي الريحاني هي كاتبة وباحثة أكاديمية لبنانية تعيش في واشنطن منذ نصف قرن. عملت في مؤسّساتٍ تنموية تربوية أميركية كبرى، وكانت مرشحةً رسميةً لرئاسة الجمهورية اللبنانية لكنها اعتكفت عنها لأسبابٍ صحّية. لها مؤلفاتٌ عدة بالإنكليزية والعربية. وحاليًّا هي الناطقة الرسمية باسم الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم. 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى