قراراتُ “حزب الله” قَلَبَت علاقاته رأسًا على عقب مع الشيعة، لبنان ككل، و…إيران
مايكل يونغ*
بعدَ وقتٍ قصير على اغتيالِ إسرائيل لرئيس وحدة “الرضوان” النخبوية التابعة ل”حزب الله”، إبراهيم عقيل، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنَّ بلاده تعملُ على “تغيير الشرق الأوسط”. وجاء الكلام عينه على لسان السياسي الإسرائيلي نفتالي بينيت، الذي غرّدَ في الثاني من تشرين الأول (أكتوبر): “لدى إسرائيل الآن أعظم فرصة لها منذ خمسين عامًا لتغيير وجه الشرق الأوسط… ولا ينبغي تفويت هذه الفرصة”.
ومع تطلُّعِ المجتمع الشيعي في لبنان إلى الحطامِ في كلِّ مكان، لا بُدَّ وأن يجدَ مثل هذه الأمثلة على الغطرسة الإسرائيلية مُزعجةً للغاية، ومُثيرةً للغضب. إنَّ المنطقة تتمتّعُ بموهبةِ إحباطِ أكثر الخطط طموحًا للجهات الفاعلة الإقليمية والدولية الرئيسة. ومع احتفال إسرائيل بما تعتبره هزيمة “حزب الله”، فإنَّ أولئك اللبنانيين الذين يدعمون الحزب لديهم بالتأكيد تفسيرٌ مختلف.
وقد يكونون على حق. ف”حزب الله” أكثر من مجرّدِ حزبٍ سياسي عسكري؛ فهو منظّمة راسخة في واحدة من أكبر الطوائف الدينية في لبنان. ولم يكتسب الحزب ولاءً هائلًا فحسب، بل اكتسب أيضًا شيئًا أكثر قوة في سياق النظام الطائفي اللبناني: التماهي مع مصير الطائفة الشيعية، بحيث ينظر كثيرون في المجتمع إلى أيِّ شيءٍ يضرُّ بالحزب على أنه يُضعِفُ الشيعة جميعًا.
إننا لا بُدَّ وأن نتذكر هذا الأمر ونحن نتطلع إلى المستقبل وننظرُ إلى ما قد يحدث ل”حزب الله” بمجرّد انتهاء الصراع في لبنان. من المؤكّد أنَّ الحزب سوف يواجه مهمّة صعبة عندما تنتهي المذبحة. فقد فتحَ جبهةً ضد إسرائيل لم يكن أحدٌ في لبنان يرغبُ فيها تقريبًا، وذلك لأنَّ الجميع كانوا يُدركون مدى ضعف البلاد بعد أربعة أعوام فقط من انهيارها المالي الهائل الذي لم يتمّ إيجادُ حلٍّ له بعد.
ومع تحوُّلِ قرى وبلدات في الجنوب والبقاع وأحياء بأكملها في الضاحية الجنوبية لبيروت إلى أنقاض، بعد أن نقلت إسرائيل الوحشية التي مارستها في غزة إلى لبنان، فإنَّ السؤالَ الذي يدورُ في أذهان الجميع هو: مَن الذي سيُعيدُ بناء ما دُمِّر؟ هذه المرة، هناك اعتقادٌ عام بأنَّ الأموالَ الخارجية لإعادة الإعمار لن تكونَ مُتاحة، بما في ذلك من دول الخليج، التي ساهم بعضها بمبلغ كبير في العام 2006. ولا يبدو أنَّ إيران قادرةٌ على توفير الأموال لإعادة بناء المناطق التي يُهيمن عليها الشيعة.
هذا لا يعني بالضرورة أنَّ أنصار “حزب الله” سوف يتحوَّلون ضده بالكامل، لكنَّ حلَّ هذه المشكلة وإحياءَ مُجتمعٍ مُصابٍ بصدمةٍ نفسية سوف يكون مهمة صعبة تستغرق عقدًا من الزمان، وهي المهمة التي من شأنها أن تُحَيِّدَ الحزبُ عسكريًا لسنواتٍ عديدة مقبلة ــ كما فعلت حرب 2006 لمدة تقل قليلًا عن عقدين. وفي هذا السياق، يبرزُ سؤالان:
الأوّل هو ما الذي حدث لاستراتيجية “وحدة الساحات” التي صاغتها إيران و”حزب الله” في العام الفائت؟ النتيجةُ المُروِّعة هي أن الساحات توحّدت في الخراب، حيث تسيرُ المناطق ذات الأغلبية الشيعية في لبنان على الخطى نفسها التي سارت عليها غزة. ويبدو أن الجبهتَين الفلسطينية واللبنانية في هذه الاستراتيجية قد أُلغِيَتا، حيث أصبحَ الإسرائيليون قادرين على التصعيد إلى مستوياتٍ أعلى من الدمار من دون أن تتمكّنَ إيران وحلفاؤها من القيام بالشيء عينه.
السؤال الثاني هو أنه إذا كان “حزب الله” غير قادرٍ على إعادةِ التسليح وتعبئة مجتمعه المُدمَّر لدعمِ حربٍ جديدة ضد إسرائيل في المستقبل المنظور، فما هي قيمة الحزب بالنسبة إلى إيران؟ هل ينبغي للإيرانيين أن يُفكّروا في ما إذا كان الوقتُ قد حان لتغيير استراتيجيتهم التي تُركّزُ على توسيع نفوذهم العسكري في جميع أنحاء العالم العربي، وبالتالي تجنُّب الاصطدام المباشر مع معظم الدول العربية والولايات المتحدة وحتى إسرائيل؟
في هذه المرحلة، يبدو أنَّ نظرةَ القيادة الإيرانية لم تتغيَّر، ومن غير المُحتمل أن تتغيَّرَ طالما ظلَّ المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي في السلطة. ولكن الحليفين الإقليميين الأكثر قوة لإيران في الحرب ضد إسرائيل ــ”حزب الله” و”حماس”ــ قَوَّضا قدرة شعبيهما على تحمُّلِ حروبٍ جديدة، الأمر الذي سيكون له تأثير مُعوِّق على قوّتهما، وقوة إيران.
ماذا عن هامش المناورة الذي يتمتع به “حزب الله” داخل لبنان؟ لقد أدت هيمنة الحزب على المستوى المحلي إلى تراكُمٍ تدريجي للاستياء في السنوات الأخيرة، إلى الحدِّ الذي جعله معزولًا إلى حدٍّ كبير في حربه ضد إسرائيل اليوم. لا أحد يلوم الحزب علانية، والعداءُ تجاه إسرائيل مرتفع، لكن قِلّةً من اللبنانيين تؤيِّدُ قرار “حزب الله” بفتح جبهة جنوبية من دون عناء التشاور مع شركائه اللبنانيين، ناهيك عن الدولة.
سوف يُخلِّفُ هذا الأمر تداعيات على قدرة “حزب الله” على فرض أولوياته على الطبقة السياسية. ويبدو الآن من غير المحتمل أن يتمكّنَ الحزب من جلب الرئيس الذي يفضله، سليمان فرنجية، ضد رغبات الطائفة المسيحية المارونية التي ينتمي إليها الأخير. ويرى العديد من المسيحيين أن إصرار “حزب الله” على ترشيح فرنجية مثالٌ على الغطرسة، معتبرين أنَّ الحزب لم يسمح قط للطوائف الأخرى باختيار المسؤولين الشيعة في الدولة.
ومع مقتل السيد حسن نصر الله، ووفاة خليفته المحتمل وابن عمه هاشم صفي الدين، وكلاهما قُتلا بقنابل إسرائيلية، فمن غير الواضح مَن الذي يملك السلطة والكاريزما لقيادة الطائفة الشيعية الدينية من الآن فصاعدًا.
سوف تتجه أنظارُ العديد من الناس الآن إلى نبيه بري، رئيس مجلس النواب البالغ من العمر 86 عامًا، والشخصية الشيعية الأرفع شأنًا في الدولة. إنَّ بري يجلس في قلب مَنطِقَين يُهيمنان على لبنان اليوم ــ منطق المقاومة بقيادة “حزب الله” ومنطق الدولة، حيث يعتقد العديد من اللبنانيين أنه لا ينبغي السماح لأيِّ جهةٍ مسلّحة غير حكومية مرة أخرى بجرِّ لبنان من جانبٍ واحد إلى حرب. وسوف يلعب بري دورًا رئيسًا في مساعدة أحد هذين المنطقين على الانتصار. لكن إلى أيِّ اتجاه سوف يميل؟ قد يتحدّدُ مصير لبنان باختياره. ألم يصف نعيم قاسم، نائب الأمين العام ل”حزب الله”، رئيس مجلس النواب بأنه “الأخ الأكبر” في خطابٍ ألقاه في الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) الجاري؟
- مايكل يونغ هو مُحرّرٌ كبير في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيثُ يرأس تحرير مدوّنة “ديوان” التابعة للمركز. وهو كاتب رأي في الشؤون اللبنانية في صحيفة ذا ناشيونال، ومؤلف كتاب “أشباح ساحة الشهداء: رواية شاهد عيان عن كفاح لبنان في الحياة” (دار سايمون وشوستر، 2010)، الذي اختارته صحيفة وول ستريت جورنال كواحد من الكتب العشرة البارزة لعام 2010. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @BeirutCalling
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.