بعد السعودية والإمارات، البحرين تُذيبُ الجليدَ في علاقاتها مع إيران
على الرُغم من تطبيع علاقاتها مع إسرائيل وتوقيع إتفاقٍ أمني مع الولايات المتحدة، تعمل مملكة البحرين الآن على تحسين علاقاتها مع إيران على وقع ما يحصل في غزة ولبنان والشرق الأوسط.

جوشوا كراسنا*
شهدت البحرين تطوّراتٍ داخلية وديبلوماسية كبيرة في الأشهر الأخيرة، الأمرُ الذي يُشيرُ إلى تغييراتٍ بعيدة المدى في السياسات التي طالَ أمدها. تشملُ هذه التغييرات إطلاقَ سراحِ أعدادٍ غير مسبوقة من السجناء، بما في ذلك العديد ممن يُعتَبَرون سجناءً سياسيين؛ وخطواتٍ نحو استئناف العلاقات مع إيران؛ وعلاقاتٍ وثيقة مع روسيا والصين.
ويبدو أنَّ هذه التغييراتَ مدفوعةٌ بالرغبة في تخفيف التوتّرات الطائفية المحلّية، فضلًا عن مُواءَمةِ سياسات البحرين مع سياسات دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى بشأنِ كلٍّ من إيران واستراتيجية “التحالف المتعدد” بشكلٍ عام، مع الحفاظ على العلاقات الأمنية الحاسمة مع الولايات المتحدة وإسرائيل.
ولكن في حين تُمثّلُ هذه التحركات تحوُّلًا ملحوظًا في التوجُّه المحلّي والدولي للبلاد، إلّا أنها تظُّل أيضًا عُرضةً للتوتّرات التي قد تجعل التوازن فيه صعبًا للحفاظ عليه.
إيماءاتٌ المحلية
في نيسان (إبريل) الفائت، وقبل عطلة عيد الفطر التي تُصادف نهاية شهر رمضان، أمر الملك حمد بن عيسى آل خليفة بالإفراج غير المشروط عن 1,584 سجينًا. وكان هذا أكبر عفو منذُ قمع الاضطرابات المُرتبطة بالانتفاضات العربية في العام 2011 ــ بمساعدة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. ومنذ ذلك الحين، تمَّ العفو عن أكثر من ألف سجين أو استبدال أحكامهم ببدائل غير احتجازية. وتُفيد تقارير عدة إنَّ من بين المُفرَجِ عنهم مئات الأشخاص الذين تعتبرهم منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية سجناءً سياسيين، على الرُغم من أنَّ بعض أبرز السجناء السياسيين في البحرين ما زال مسجونًا. ويُنظَرُ إلى عمليات الإفراج هذه باعتبارها دليلًا من جانب القيادة البحرينية على أنها “تمضي قدُمًا” بعيدًا من أحداث العام 2011، كجُزءٍ من أجندةٍ مُحَدَّدة على مدى السنوات القليلة الماضية لخلقِ هويةٍ وطنيةٍ جديدة غير طائفية.
تحسينُ العلاقات مع إيران
كانت العلاقات بين البحرين وإيران مُتوتِّرة تاريخيًا. فقد اتّهمَ النظام البحريني الذي يقوده السنّة إيران منذ فترة طويلة بالتخريب وبتشجيع تطرُّفِ الغالبية الشيعية في المملكة. ومن جانبها، تعتبر إيران البحرين جُزءًا من أراضيها. وقد تعطّلت علاقتهما المتوتّرة أصلًا في العام 2011، عندما ألقت البحرين باللوم على إيران في إثارة أو على الأقل تشجيع المظاهرات التي اندلعت كجُزءٍ من الانتفاضات العربية. ثم في العام 2016، قطعت البحرين، إلى جانب السعودية والإمارات، العلاقات الديبلوماسية في أعقاب اقتحام السفارة السعودية في طهران.
بالإضافة إلى العوامل المحلية وراء العفو عن السجناء، يبدو أنها أيضًا إشارةٌ إلى إيران برغبتها في تخفيف التوتّرات. ومن الجدير بالذكر أنه في 23 أيار (مايو)، بعد أسابيع فقط من الإفراج عن السجناء، أعربَ الملك حمد رسميًا عن موقف البحرين الجديد بشأن العلاقات الثنائية خلالَ زيارةٍ إلى موسكو، عندما قال للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنَّه كانت “لدينا مشاكل مع إيران، ولكن ليس بعد الآن. ولا نرى أيَّ سبب لتأخير تطبيع العلاقات”. وقد أدلى بتصريحاتٍ مُماثلة بعد أسبوعٍ أثناء زيارته لبكين. وكان من غير المعتاد أن يأتي إعلانُ هذه المبادرة الجديدة في السياسة الخارجية من الملك نفسه، حيث عادة ما يُعلِنُ عن هذه التحركات وزير الخارجية عبد اللطيف بن راشد الزياني أو وكيله المؤثّر للشؤون السياسية، الشيخ عبد الله بن أحمد آل خليفة. وكان الزياني حضر أصلًا جنازة الرئيس الإيراني السابق إبراهيم رئيسي في 22 أيار (مايو)، أي قبل يومٍ من إعلان الملك، كما حضر تنصيب خليفة رئيسي، الرئيس مسعود بزشكيان، في آب (أغسطس).
ومنذ إعلانِ الملك، كان هناكَ تقدُّمٌ مُتَعَمَّدٌ في الاتصالات الثنائية. فقد التقى الزياني بنظيره الإيراني في طهران لحضوِر مُنتدى حوار التعاون الآسيوي في 24 حزيران (يونيو)، في زيارةٍ هي الثانية له خلال شهر. ووفقًا لبيانهما المشترك الذي أعقب الاجتماع، “اتفق الجانبان على إنشاءِ الآليات اللازمة لبدء المفاوضات … حول كيفية إعادة بدء العلاقات السياسية”. وقبل هذه الزيارة، بدأت المفاوضات بين نواب محافظَي البنكين المركزيين في البلدين بشأن الإفراج عن الأصول الإيرانية المُحتجزة في البحرين منذ العام 2021. وعُقِدَ اجتماعٌ آخر بين وزيرَي الخارجية في 21 أيلول (سبتمبر) في الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، مرة أخرى بهدف “تنسيق بدء المحادثات بشأن استئناف العلاقات الديبلوماسية”.
العلاقات مع الولايات المتحدة وإسرائيل
على الرُغمِ من أنَّ التحسُّنَ في العلاقات الثُنائية يبدو ملحوظًا، إلّا أَّن النظام البحريني لا يزال يَعتبرُ طهران ووكلاءَها الشيعة تهديدًا مهمًّا للغاية، بل وحتى وجوديًا، للأمن الداخلي والوطني. ونتيجةً لذلك، تُعَدُّ البحرين جُزءًا من تحالُفٍ غير مُعلَن للدفاع الجوي/الصواريخ المضادة للصواريخ والذي تطوَّرَ منذ اتفاقيات أبراهام في العام 2020 – والتي شهدت تطبيع البحرين والإمارات للعلاقات مع إسرائيل– واكتسب زخمًا بعد أن أضافت واشنطن إسرائيل إلى ولاية القيادة العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط، “القيادة المركزية”، التي تقع قاعدتها الإقليمية الرئيسة في المنامة- في كانون الثاني (يناير) 2021. كان وجودُ هذا التحالف واضحًا في التعاون الإقليمي الوثيق الذي أدى إلى اعتراضِ هجوم الصواريخ والطائرات المُسَيَّرة الإيرانية على إسرائيل في منتصف نيسان (أبريل). وبحسب التقارير التي وردت، زار رئيس أركان الجيش الإسرائيلي قاعدة القيادة المركزية في المنامة والتقى بنظرائه العرب في حزيران (يونيو) الفائت.
من المُمكن أن تكونَ المنامة قد اكتسبت الثقة اللازمة لتكون أكثر مرونة في ما يتعلق بالعلاقات مع إيران بعد أن وقّعت اتفاقية التكامل الأمني الشامل والازدهار، أو اتفاقية “C-SIPA”، مع الولايات المتحدة في أيلول (سبتمبر) 2023. وهذه الاتفاقية تتوسّع في التعاون العسكري والأمني والتكنولوجي والاقتصادي والعلمي بين الجانبين، وتتضمّن مناقشات حول تعزيز تكامل “الأنظمة الدفاعية والقدرات الرادعة للأطراف، وخصوصًا في المجال الجوي والبحري”. وتنصُّ على أنَّ “أيَّ عدوانٍ خارجي أو تهديدٍ بالعدوان الخارجي ضدّ سيادة واستقلال وسلامة أراضي أيٍّ من الطرفين سيكون موضع قلق بالغ للطرف الآخر”، ما يؤدي إلى إجراء مشاورات رفيعة المستوى بشأن “الاستجابات الدفاعية والرادعة المناسبة”. وفي حين أنَّ الاتفاقية ليست معاهدة تتطلّب تصديق مجلس الشيوخ، فقد أشار مسؤولٌ أميركي إلى أنها تُعتَبَرُ تَعهّدًا “مُلزِمٌا قانونًا” يهدف إلى ردع الصراع في الشرق الأوسط.
ولعلَّ هذا هو السبب الذي جعل البحرين الدولة العربية الوحيدة التي انضمَّت علنًا إلى عملية “حارس الرخاء” التي تقودها الولايات المتحدة بهدف حماية الشحن في البحر الأحمر من هجمات الحوثيين المدعومين من إيران في اليمن. وفي أعقابِ الاجتماع الأول لمجموعة عمل “C-SIPA” في تموز (يوليو)، ذكرت التقارير الأميركية أنَّ الجانبين “تبادلا وجهات نظرهما بشأن قضايا الأمن الإقليمي الحرجة، بما في ذلك الإجراءات المزعزعة للاستقرار التي تقوم بها إيران ووكلاؤها الإقليميون، بما في ذلك الحوثيون”.
أصبحت البحرين الآن آخر دولة في مجلس التعاون الخليجي تبدأ تجديد العلاقات مع إيران، حيث فعلت دولة الإمارات ذلك في آب (أغسطس) 2022، تلتها السعودية في آذار (مارس) 2023. ويبدو أنَّ المنامة لم تكن تريد أن تظل معزولة في ظل افتقارها إلى العلاقات مع إيران، وربما شجعها حليفاها الخليجيان على السير على خطاهما.
التحالف المُتَعدّد الأطراف مع الصين وروسيا
إنَّ إعلانَ الملك حمد عن التوجّهِ الجديد للبحرين تجاه إيران في موسكو، أثناءَ اجتماعه مع بوتين، يُوضّحُ جهودَ البحرين لتبنّي سياسةٍ خارجية تقومُ على النوعِ نفسه من استراتيجيةِ التحالفِ المُتَعدّد الأطراف التي تبنّتها كلٌّ من الرياض وأبو ظبي منذ فترة طويلة. وبدون التخلّي عن العلاقات الاستراتيجية الوثيقة مع واشنطن، فإنَّ البحرين “تتحوَّط” من خلال تحسين علاقاتها مع روسيا، ومع الصين خصوصًا. في اجتماعٍ مع الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال زيارة الملك للصين في أيار (مايو) 2024، اتفق الجانبان على رفع العلاقات الثنائية إلى “شراكةٍ استراتيجيةٍ شاملة”، وهو ما يعكس لغة اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البحرين وواشنطن.
ليسَ من الواضح ما هي الفوائد الرئيسة التي يُمكِنُ توقُّعها من العلاقات مع روسيا والصين، بصرفِ النظر عن درجةٍ من التنوُّعِ الجيوستراتيجي. موسكو وبكين على استعدادٍ دائمٍ لتعميق العلاقات -حتى تجميليًا- مع حلفاء الولايات المتحدة. كما إنَّ لكلٍّ منهما نفوذًا على إيران، وهي فائدة كبيرة للبحرين عند محاولة التثليث بين إسرائيل والولايات المتحدة وإيران، خصوصًا مع استمرار تصعيد الأزمة الإقليمية. إنَّ البحرين لا تُتاجر كثيرًا مع روسيا، ولا يتمتّع اقتصادُها الصغير إلّا بجوانب تكميلية واضحة قليلة لاقتصاد روسيا. إنَّ تجارتها مع الصين أكثر قوة، وإن كانت تتجه بشكلٍ كبير نحو الواردات، وقد تكون المنامة مهتمّة بزيادة الاستثمار والسياحة الصينيَين، ولكنها لا تستطيع أن تُقدّمَ سوى القليل مما لا يستطيع شركاؤها الأكبر في مجلس التعاون الخليجي تقديمه.
وإذا نظرنا إلى المستقبل، فمن المرجح أن يتقدّمَ النظامُ البحريني ببطءٍ وحذرٍ في هذه التحوّلات على الصعيدين المحلي والدولي. إن طبيعة النظام العائلي المُحكَم الذي يُحيط به الأمن، إلى جانب الديناميكيات الطائفية الداخلية في البحرين، تعمل على منع أيِّ انفتاحٍ محلّي سريع وكبير. كما تعمل العلاقة العسكرية الوثيقة مع الولايات المتحدة ــ تستضيف البحرين 9,000 جندي أميركي ــ والتي تستهدف بوضوح إيران وحلفاءها أيضًا، ضد تحسين العلاقات بشكل كبير.
إنَّ العلاقات الديبلوماسية بين البحرين وإسرائيل والتعاون الأمني والعسكري الكبير بينهما يُشكّلان أيضًا عوامل مُقَيِّدة. فقد انتقدت البحرين سلوكَ إسرائيل في الحرب في غزة في العام الماضي، وخففت من حدة العلاقات منذ اندلاعها. إنَّ التضامن الشعبي والتعاطف مع المعاناة الإنسانية للفلسطينيين في غزة يمتدان عبر الانقسام الطائفي في البحرين، والعلاقات الطبيعية مع إسرائيل غير شعبية إلى حد كبير. ومع ذلك، لم يتم تخفيض مستوى العلاقات الثنائية، ومن المشكوك فيه للغاية أن تُعيدَ الأسرة الحاكمة النظر في قرارها بالتطبيع مع تل أبيب. وفي حين أدت المصالح الاقتصادية والطاقة الرئيسة لإيران تجاه الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية حتى الآن إلى دفع طهران إلى تجاهل علاقاتهما مع إسرائيل في السعي إلى تحسين العلاقات معهما، فإنَّ الفرص الاقتصادية الأصغر بكثير المتاحة في البحرين تعني أنه لا يوجد ما يخفف من التوتّرات التي من المرجح أن تولّدها علاقات البحرين المستمرة مع إسرائيل.
كلُّ هذه التحوّلات هي في مرحلةٍ أولية مؤقتة، ولا تزال عُرضةً للتقلبات والانعطافات وحتى الانعكاسات – خصوصًا بالنظر إلى الطبيعة المركزية للغاية لصنع القرار في المملكة. مع ذلك، فإنها تتضافر لتُمثّل تخفيفًا كبيرًا للسياسات الأمنية الصارمة التي استمرت لعقد من الزمان، ما يؤدي إلى تغييرِ التركيز في الداخل وفي الخليج والعالم.
- جوشوا كراسنا هو أستاذ في مركز الشؤون العالمية في جامعة نيويورك، وزميل أول في برنامج الشرق الأوسط في “معهد أبحاث السياسة الخارجية” (Foreign Policy Research Institute’s Middle East Program).
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.