مَقتَلُ حسن نصر الله يَضَعُ “حزب الله” على مُفتَرَقِ طُرُق
لينا الخطيب*
إنّها ليست نهاية “حزب الله”. ولكنها نهاية “حزب الله” كما عرفناه على مدى العقود الثلاثة الماضية، وكما عرفَ نفسه.
لقد أذهلَ مقتلُ الأمين العام ل”حزب الله”، السيد حسن نصر الله، لبنان والشرق الأوسط، حيثُ شَكّلَ بدايةً لتطوُّرِ وَضعٍ سياسيٍّ وأمنيٍّ جديد في لبنان، مع عواقب وخيمة على دورِ إيران في البلاد. إنَّ الأمرَ لا يقتصرُ فقط على أنَّ “حزبَ الله” لا يستطيع البقاء في هذه الحقبة الجديدة من دونِ تحوُّلٍ كبير في هويته، بل إنَّ المجموعةَ نفسها تغيّرت بالفعل نتيجةً للحملة العسكرية الإسرائيلية المُستمرّة ضدها.
لقد بنى “حزب الله” مصداقيته المزعومة على أساسِ كونهِ قوةً “ضرورية” لتحرير لبنان، والدفاع عنه لاحقًا. ولكن “حزب الله” نفسه هو الذي ساعد على خلقِ هذه الضرورة: فقد استفادَ من ضعف القوات المسلحة اللبنانية التي لم تَعُد قادرة على الصمود في وجه التهديدات الخارجية بمفردها، ولكنه ساهم أيضًا في الحفاظ على ضعفِ الجيش.
في العام 2014، عندما كان مُتَطرّفو “داعش” يُخطّطون للتوغُّل من سوريا إلى لبنان، لم يُشارك “حزب الله” معلوماته الاستخباراتية حول هذه الخطة مع الجيش حتى بعد أن عَبَرَ مقاتلو “داعش” إلى البلاد وبدَؤوا مهاجمةَ الجنود. ثم قدّمَ “حزب الله” نفسه على أنه يُحفّزُ على التحرّك والعمل لمساعدة الجيش لإظهار الحاجة إليه للدفاع عن لبنان. وقد استخدَمَ عذرَ الدفاعِ عينه لتبرير تجاهله لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701، الذي ينصُّ على أنَّ الجيش اللبناني فقط يجب أن يكونَ موجودًا في المنطقة الواقعة جنوب نهر الليطاني.
كان “حزب الله” بحاجة إلى هذه القوة العسكرية، بما في ذلك نجاحاته ضد إسرائيل (وخصوصًا انسحاب الأخيرة في العام 2000 وبعد حرب 2006)، لتعزيزِ مكانته السياسية في لبنان حتى يتمكّن من فرض أجندته وكذلك أجندة إيران. كما استخدمَ أسلحته بشكلٍ دوريِّ داخل لبنان لترهيبِ خصومه السياسيين.
في بلدٍ يقومُ فيه النظامُ السياسي على الإجماعِ بين النخبة الحاكمة في لبنان، كان “حزب الله” بحاجةٍ إلى الحفاظ على تفوّقه العسكري حتى يتمكّنَ من الاستمرارِ في الهيمنة على السياسة الوطنية من خلالِ إجبارِ مُعارضيه على الاستسلام. وإذا لم يتمكّن من إجبارِ الأحزابِ الأخرى على الالتزام بالخط، فإنه كان لا يزال قادرًا على منع القرارات السياسية التي لا تسير في صالحه.
باستخدامِ حقِّ النقض (الفيتو) الذي يتمتّعُ به في مجلس الوزراء وتوجيه أعضاء البرلمان بعدم المشاركة في الانتخابات الرئاسية، كان “حزب الله” هو الفاعل الرئيس الذي دفع لبنان نحو الفراغِ السياسي. كما استولى على الدولة من خلال مُمارسةِ سيطرةٍ غير رسمية على مؤسّساتها.
أصبحت حدود لبنان مع سوريا مسامية، ما سمح للحزب بتهريب الأسلحة والمخدرات في كلا الاتجاهين من دون إشرافٍ من الدولة، في حين كان مرفَأ بيروت يحتوي على مستودعاتٍ يتمُّ تخزين بضائعه فيها من دون تفتيشٍ من قبل السلطات. في العام 2008، استولى مقاتلو “حزب الله” على مناطق من بيروت للضغط على معارضي الحزب للتخلّي عن المطالبة بوضع شبكة اتصالاته تحت إشراف الحكومة، واستخدموا الحاجة إلى الحفاظ على “أمن المقاومة” كسببٍ لضرورةِ فصل شبكة اتصالاته عن الشبكة الوطنية.
إنَّ إذلالَ “حزب الله” على أيدي إسرائيل يُغيِّرُ هذا الوضع بشكلٍ كبير. بعد أن تكبّدَ مثل هذه الخسائر العسكرية الضخمة بسببِ الضربات الجوية الإسرائيلية، لم يَعُد بإمكان “حزب الله” أن يُقدِّمَ نفسه كمُدافعٍ عن لبنان بأيِّ درجةٍ من المصداقية. لقد كشفَ اختراقُ إسرائيل للتنظيم، والذي لم يكن نتيجةً لعملياتٍ إلكترونية فحسب، بل وأيضًا لمعلوماتٍ استخباراتية بشرية، أنَّ البُنيةَ التحتية الأمنية للتنظيمِ ليست مَنيعة كما كان يزعم. إنَّ الخسارةَ العسكرية والأمنية تُمهّدُ الطريق لتقليصِ مكانته السياسية.
إنَّ “حزب الله” يُواصِلُ معركته ضد إسرائيل في محاولةٍ لإنقاذِ ماءِ وجهه. لكنَّ الحملةَ العسكرية الإسرائيلية المُتواصِلة لم تَعُد تهدفُ إلى دفعِ “حزب الله” إلى الموافقة على صفقة. بل تمَّ تطويرها لتسعى إلى تحييد المجموعة بشكلٍ دائم. وسوف يستغرقُ الأمرُ بعض الوقت قبل أن يُدرِكَ “حزب الله” أن الأمرَ ليس كما تصوَّر، وأنه بالغَ في تقديرِ نقاطِ قوّته بينما قلّلَ إلى حدٍّ كبيرٍ من شأنِ إسرائيل. ولكن هذا الكشف سوف يأتي في نهاية المطاف.
إن ما يختار “حزب الله” القيام به في هذا الشأن مُهمٌّ للغاية.
رُغمَ إضعافه في مواجهة إسرائيل، فإنه يظلُّ أقوى الفاعلين السياسيين على المستوى المحلي لأنه الحزب السياسي الوحيد في لبنان الذي يمتلك أسلحة. ومن المرجح أن يُحاولَ بشدة الاحتفاظ بهذا الامتياز حتى لو هزمته إسرائيل. لكن إضعافه يمنح البلاد أيضًا فرصةً لاستعادةِ سلطة الدولة.
وإذا ما دعمَ المجتمع الدولي لبنان في اتخاذ هذه الخطوة الضرورية، فسوفَ يجدُ “حزب الله” نفسه أمام خيارَين: إما أن يكونَ مُفسِدًا ويخلق الفوضى في البلاد، وهو ما قد يؤدّي إلى صراعٍ أهلي، أو يُغيّرَ أسلوبَ عمله ويُوافق على أن يُصبِحَ مثل بقيةِ الأحزاب السياسية، فيُسلّم أسلحته للجيش أو على الأقل يلعب دور القوة المساعدة تحت إشراف الدولة. وفي حين أنَّ أيًّا من المَصيرَين سوف يستغرقُ بعض الوقت قبل أن يتحقق، فإنَّ إيران سوف تكون صانعة القرار الرئيس ل”حزب الله” في هذا الصدد. وإذا كانت طهران تريد الاحتفاظ بدرجةٍ من النفوذ في لبنان، فإنها تحتاج إلى الإدراك بأنَّ إسرائيل لن تتسامح بعد الآن مع وجود الحزب على حدودها حيث يُشكّلُ تهديدًا مُحتَمَلًا.
إن هذا يعني تقليصُ مدى تورُّط إيران في لبنان إلى قبولِ دورٍ أقل ل”حزب الله”. أما المسار الآخر ــوهو أن يكون مُفسدًاــ فسوف يجتذب في نهاية المطاف موجةً أخرى من العدوان ليس فقط من جانب إسرائيل بل وربما أيضًا من جانب الجهات الفاعلة الدولية في سيناريو أشبه بالتحالف العالمي ضد “داعش”.
إنَّ هذا هو وقت الحساب ل”حزب الله” ودور إيران في لبنان، وهو السيناريو الذي لم يتوقّع أيٌّ منهما مواجهته قط والذي لم يكونا مستعدّين له. وتؤكّدُ قصة الحزب على ما يحدث عندما يصبحُ غرورُ أحد الأطراف كبيرًا إلى الحد الذي يجعله أعمى. وسوف تأتي اللحظة التي يدرك فيها أن الفقاعة انفجرت.
إنَّ استقرارَ لبنان يتوقّف على البراغماتية التي تسود في نهاية المطاف في معسكر إيران و”حزب الله”.
- لينا الخطيب زميلة مشاركة في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مركز الأبحاث البريطاني “تشاتام هاوس”.